«عايشين من قلة الموت» بهذه العبارة المختصرة تصف «أميرة الخال» الحال المعيشي لأهالي مدينة حلب الذين يعيشون في مناطق سيطرة الحكومة السوريّة، وأميرة البالغة من العمر ٢٦عاماً، أم لثلاثة أطفال مسؤولة عن تربيتهم والمنزل الذي يؤويها مع أطفالها، بعدما غيّبت الحرب المندلعة في البلاد زوجها قبل ثلاث سنوات مضت.

تشهد مدينة حلب كما سائر المناطق الخاضعة لسيطرة القوات الحكومية السورية، أوضاعاً اقتصاديّة مترديّة، لا سيما مع استمرار تراجع قيمة الليرة السوريّة مقابل الدولار، إذ وصل سعر الدولار الواحد إلى ٦٧٠ ليرة. هذا الانخفاض لقيمة العملة المحليّة، الذي يقابله بالطبع ارتفاعاً باهظاً في أسعار السلع والخدمات، في حين لا يتغيّر متوسط دخل الفرد في تلك المناطق، ذلك ما شكّل أعباءً إضافيّة أمام العائلة الحلبيّة للوصول إلى حياة مستقرة متوازنة، تضمن الحصول على المقوّمات الأساسيّة للحياة من سلعٍ وخدمات.


فقدان أبسط مقومات الحياة.

يقول «أحمد صباغ» وهو موظف في مديرية المياه بحلب، إن ارتفاع الأسعار الذي تشهده البلاد مقارنة مع الراتب الذي يتقاضاه، لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن يكفي أكثر من عشرة أيام.

بدورها تؤكد «أميرة» التي بدأنا حديثنا بها، أن العائلة المؤلفة من خمسة أفراد ولكي تكمل الشهر الواحد بأبسط مقوّمات الحياة تحتاج إلى ١٥٠ ألف ليرة سوريّة أيّ ما يعادل (٢٢٥دولار)، وتقول «هذا بالطبع إذا لم تكن لدى العائلة مصاريف إضافيّة تتعلق بالصحة أو التعليم أو آجار المنزل».

وتضيف أميرة خلال حديثها لموقع «الحل نت»، «في كثير من الأحيان نضطر إلى الاستغناء عن بعض الخدمات مقابل تأمين الطعام في المنزل، في منزلنا تصل الكهرباء لمدة ساعتين فقط، فمصروف الكهرباء عادة يحتاج مبلغ ١٦ ألف شهريّاً، أما مصاريف التسوّق الثانويّة والتجميل والطبخ باستخدام لحم الغنم، فتلك أمور لم نعد نتحدث عنها في المنزل، الاستغناء عنها أصبح من البديهيّات!».

الفروج الضيف الثقيل
وعن التوازن بين دخل الفرد ومتطلبات الحياة تقول سمر (٢٥ عاماً) ساخرة باللهجة المحلية لأبناء المدينة: «مافي راتب…بس على هالغلا والإيجارات لازم تكون الرواتب 250 الف، وكتر الله خيرنا اذا كفّت وهي اذا المواطن عمل تقشّف عالآخر وكيلو اللحمة قسمها على 15 طبخة والفروج استخدمه ع 3 وجبات وست البيت تغسل بالشهر مرتين ويتحمموا بالشهر مرة وينزلوا عالسوق بالمناسبات المهمة جدا جدا واهم شي النسوان تستغني عن مكياجها، هيك بكون الوضع تمام والمواطن بعيش بثبات ونبات وبكامل النشاطات والرفاهيات».

ويجمع السكان في مدينة حلب بمختلف مشاربهم، على أن متوسط الدخل بالطبع لا يتناسب مع أدنى مستويات الصرف، فالموظف العادي وفي أحسن أحواله لا يتجاوز راتبه ٤٠ ألف ليرة، في حين أن أجور العمّال لا تتجاوز ألفي ليرة يوميّاً، أما العساكر في الجيش السوري فيتقاضون 45 ألف ليرة شهريّاً، وتلك الفئات تشكل النسبة العظمى من أهالي المدينة.

إذاً كيف يتدبر الناس أمورهم!
وعن الحلول المتّبعة في الموازنة بين الدخل والمصروف يتبع الأهالي حلول عديدة بينها سكن أكثر من عائلة في منزل واحد، أو الاستغناء عن بعض السلع والخدمات الأساسيّة مقابل أخرى، كتوجيه الدخل إلى الطعام مقابل عدم تخصيص مبالغ للتعليم والصحّة، أو التخلّي عن التدفئة مقابل تأمين الغذاء.

وتذهب «أميرة» للقول بأن الأوضاع الاقتصاديّة المتدهورة في البلاد دفعت كثير من الأهالي لتقديم تنازلات عن مبادئهم التي تعلموا عليها في الحياة والتحوّل مجبرين لممارسات غير أخلاقيّة وغير شرعيّة، وذلك مقابل تحصيل دخل يضمن لهم توفير أبسط مقوّمات الحياة.

وتقول «أميرة» أثناء حديثها لـ«الحل نت» ودون أيّة حواجز: «يللي بدو يعيش بهالبلد بدو يسرق، الموظف بيرتشي وصاحب الدكان بيغش والتاني بيسرق ليطعمي ولاده، والبنت ممكن توصل معها لبيع جسدها، لا مكان لأصحاب القيم والمبادئ بهالبلد بعد أن أصبح كل شي مباح».

وتؤكد شهادات من أهالي مدينة حلب، بأن الوضع المعيشي تسبب في انتشار مهن دخيلة على بيئتهم الاجتماعية، وذلك نتيجة فقدان العديد من العائلات لمن كان يصرف عليهم، أو من كان يعمل ويصرف على أكثر من عائلة في الوقت ذاته، حيث تقول «أم أحمد» بخجل الأمهات: «للأسف الغلاء الفاحش وسوء الوضع المعيشي، ألغى حاجز العادات والتقاليد الاجتماعيّة التي كنا نتباهى بها في مجتمعنا، وعائلات وأسر كاملة تفككت، ودفعت المئات منهن للعمل مرغمين في مهن لم يكنّ في السابق حتى يلفظونها بمجرّد الكلام، وكل هذا لتوفير احتياجات عائلاتهنّ، ما يتم توزيعه على الأهالي من رواتب وأجور لا يكفي أبداً لمعيشة كريمة، أما القسم الآخر فيتم جمعه من ممارسات لا أخلاقية كالسرقة والغش وغيرها».

ما ذكرناه في تقريرنا ربما لا يعبر عن كامل المأساة الاقتصاديّة التي يعيشها الأهالي في مدينة حلب وسائر المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة السوريّة، ولدى فتح «الحل نت»ملف الوضع المعيشي حصل على عشرات الشهادات من الأهالي، ربما لا يتسع ذكرها في تقرير أو مقال.

تكرار الانفجار
ويستغرب مراقبون هذا الصمت الذي تشهده البلاد، فالظروف الذي تعيشها مناطق سيطرة الحكومة، أصبحت ملائمة لانفجار ربما في وجه هذه الحكومة من الأهالي الذين وقفوا معها وتحملوا أعباء الحياة والحرب على حساب كراماتهم، فيما يتوقع آخرون انفجار قريب سينبع من رحم المعاناة والظلم الاقتصادي الذي يعشيه السوريّون، أما الناشط الميداني «سليم مختار» فيقول «الوضع بمناطق النظام من أسوأ ما يكون، متوسط دخل الفرد صاير ٥٠ دولار وكل يوم عم ينزل، كيف الناس متحملة؟ إذا الناس هلأ ما انفجرت بوجه الحكومة، آمته بتنفجر!».

معظم الأحاديث تشير إلى عجز الغالبية من الشعب السوري، عن تأمين حاجياتهم الأساسية، وهذا ما يدفع الجميع التفكير بنفسه فقط؛ على قاعدة «اللهم أسالك نفسي» حتى ولو كانت على حساب مئات الآلاف على شاكلته، وهذا ما يؤكد أن حالة الانفجار التي حدثت في 2011 قابلة للتكرار ثانية، ولكن بأرضية وتوجهات مختلفة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.