مع استمرار النزاع السوري لعامه الثامن، ما زال السوريون عاجزين عن رؤية هيئة المرحلة الانتقالية التي ستمر بها سوريا بعد وقف النزاع. وستكون العودة العادلة لاثني عشر مليوناً من السوريين النازحين داخلياً واللاجئين في دول الجوار وغيرها تحدٍ هائل لا بد من تجاوزه إذا كنا نريد الوصول إلى حالة من الاستقرار، ولن يتم ذلك إلا بالفصل المنصف في حقوق المُلكية الخاصة بهم. فكيف يمكن للمجتمع الدولي أن يطالب الملايين من ضحايا الحرب السورية أن يعودوا إلى بلدهم إن لم يكن لهم فيها مكان يؤويهم ويحفظ كرامتهم.

استخدام قوانين الملكية كسلاح في وجه “المعارضة”
من أجل فهم مشكلة الملكية في سوريا بشكل واضح لا بد أولاً من سبر أغوار القوانين والأحداث التي أدت إلى وجودها، حيث أن الحكومة السورية شرعت القوانين لتكون داعماً لها في حربها ضد الفئات المعارضة، وذلك من خلال استخدام حقوق الأراضي والمُلكية كأدوات للحرب.

قانون الاستملاك.. بداية المأساة
سنت الحكومة منذ عام 1983 المرسوم التشريعي رقم 20 والذي ينص على السماح باستملاك الدولة للأراضي والممتلكات لغرض “النفع العام”، دون أي تحديد لمعنى النفع العام، أو ما هو التعويض الذي يجب دفعه للمالكين، مما أدى إلى استيلاء الدولة على ممتلكات الشعب مقابل تعويضات بخسة لا تمت للانصاف بصلة.
وفي حين طبّقت الحكومة قوانين الاستملاك وإعادة التنظيم بشكل غير متكافئ قبل النزاع، فقد أصدرت القوانين الجديدة منذ عام 2011 واستخدمتها كسلاح لإعادة الهيمنة السياسية من دون الاهتمام بمصير النازحين أو اللاجئين أو التفكير بأمر عودتهم.

الموافقة الأمنية من أجل الملكية
تسمح القوانين الصادرة منذ عام 2011 للأشخاص المقيمين خارج سوريا بتقديم دعاوى الملكية من خلال وكيل قانوني، ولكن يجب أن تتم الموافقة على الوكالة من قبل الاستخبارات السورية. فإن كان هذا الشخص معارض للنظام لن يقوم على أي حال بمثل هذه الخطوة ليس لثقته برفض طلبه فحسب، بل لأنه يخاف أيضاً على الوكيل القانوني إن كان قريباً أو صديقاً له، لان الأمن قد يعرضه للاستجواب والتحقيق بخصوص الموكل المعارض. ويؤثر هذا الإجراء أيضاً على حق هؤلاء المغتربين في تحصيل الميراث عند وفاة أحد أفراد الأسرة بسبب عجزهم عن أصدار الوكالة القانونية لممثل يتابع موضوع الميراث لهم.

قانون مكافحة الإرهاب والقانون رقم 10 لعام 2018
كما أشرنا سابقاً، استخدمت الحكومة السورية القوانين الخاصة بالملكية كسلاح في حربها ضد المعارضة، ولم تكتفِ بالقوانين الموجودة سابقاً بل قامت بإصدار قوانين جديدة في عام 2012 لتسهل لها محاربة “أعدائها” بالقانون. من هذه القوانين “قانون مكافحة الإرهاب” والذي يتضمن في مواده تعاريف فضفاضة لما أسمته “العمل الإرهابي” و”المنظمات الإرهابية”، و”تمويل الإرهاب”، ويجرّم “كل فعل.. وكل طريقة” تهدف إلى “إيجاد حالة من الذعر بين الناس، والإخلال بالأمن العام والإضرار بالبنى التحتية أو الأساسية للدولة” فكان هذا التعريف واسعاً يمكن للقاضي تفصيله على مقاس أي فعل يريد تجريمه. ولتنفيذ هذا القانون الجديد، صدر مرسوم رقم 7122 القاضي بإنشاء محكمة الإرهاب المختصة بالنظر في قضايا الإرهاب. والمرسوم رقم 7363 الذي يسمح للمحكمة بمصادرة جميع الأموال المنقولة وغير المنقولة “للارهابي”. كما يمكن أن يخضع جميع المعتقلين الماثلين أمام محكمة مكافحة الإرهاب إلى مصادرة أملاكهم من الدقيقة التي يتم فيها رفع الدعوى ضدهم.
هذا وقد صدر قانون رقم 10 لعام 2018، ومن خلاله يُسمح للمالكين بفترة إخطار لتقديم مستنداتهم الخاصة بالملكية أو الإيجار لإثبات حقهم في المنطقة المصادرة بحجة التنظيم. وسبّب هذا القانون ضرراً كبيراً للاجئين والنازحين الغير قادرين على إثبات حقوقهم، كما انه موقع تساؤل عن مدى استيلاء الروس والايرانيين على الأراضي نظراً إلى انتشار الشركات المملوكة لهم في سوريا.

التهجير القسري
يبلغ عدد النازحين داخلياً في سوريا 6.2 مليون شخص، خسروا منازلهم بسبب دمارها أثناء الحرب، أو بسبب سلبها منهم عن طريق التهجير القسري، حيث تعمد الحكومة السورية في مواجهتها للقوات المعارضة إلى سياسة الحصار، وتفرض بعد ذلك على الساكنين في المناطق المحاصرة شروطاً قاسية لوقف إطلاق النار غالباً ما تنتهي بفرض مغادرة المكان إذا ما أرادوا للعيش سبيلاً. ففي حمص على سبيل المثال أطلق العنف المستخدم في النصف الأول من 2012 موجة التهجير الرئيسية الأولى، حيث خرج الآلاف من الأحياء المضطربة في المدينة، وتعرضت هذه الأحياء لقصف يومي بالأسلحة الثقيلة بما في ذلك قصف الدبابات، وتعرض الناس للاعتقال والمضايقات وتم إجبار البعض على المغادرة من قبل القوات الموالية للحكومة. بدأت سلسلة من المفاوضات متعددة الأطراف بين قوى المعارضة والحكومة، بوساطة إيرانية وروسية ورقابة الأمم المتحدة. أدت هذه المفاوضات للاتفاق على نقل المقاتلين والمدنيين الذين تبقوا إلى خارج المدينة. في الفترة ما بين 7- 9 شباط 2014 ، بدأ إخلاء المنطقة المحاصرة في وسط المدينة خلال سلسلة نقل إجباري للسكان. وعلى الرغم من أنها سميت أحيانا “عمليات إجلاء”، إلا أن هذا النوع من الصفقات هو في واقع الأمر عمليات استسلام قسرية تجرى بالإكراه، حيث لا يكون أمام السكان المحاصرين سوى الاستسلام أو الموت.

لم تكن حمص هي الوحيدة التي تعرضت للتهجير القسري، بل حصل الأمر ذاته في داريا وفي حرستا ودوما وغيرها من مدن الغوطة حيث اضطر السكان إلى التخلي عن منازلهم في سبيل الحفاظ على ما تبقى من حياتهم وحياة أبنائهم. ولم يكن الحال أفضل بالنسبة لسكان حلب الشرقية وغيرها من المدن والبلدات التي تمت مقايضة سكانها إما بالموت المؤكد نتيجة انعدام كل سبل الحياة فيها جراء الحصار الخانق والقصف الجوي، أو إجبارهم على ترك منازلهم وأراضيهم وأرزاقهم إلى مناطق أخرى.
لم يكن هذا التهجير دائماً بجهود النظام السوري فقط، ففي المدن الأربعة كفريا والفوعة بريف ادلب ومضايا والزبداني بريف دمشق حصل التهجير بالاتفاق مع جبهة النصرة. أما في عفرين فكان التهجير على يد فصائل غصن الزيتون، وفي مدينة رأس العين في الحسكة كان كذلك للدولة التركية بالتعاون مع الجيش الوطني المعارض الدور الأبرز في تهجير السكان وتركهم لممتلكاتهم حفاظاً على أرواحهم. هذا ولا بد من ذكر التهجير الذي تسببت فيه داعش للايزيديين في شمال شرق سوريا.

السجلات والوثائق العقارية الرسمية
بسبب اضطرار بعض السكان لبيع ممتلكاتهم بسرعة لتأمين احتياجاتهم اليومية، عمد الكثير من الناس إلى بيع بيوتهم دون تسجيل هذه المعاملات بشكل رسمي. مما أدى إلى نزاعات حول من يحق له حيازة المُلكية قانوناً. بالإضافة إلى حقيقة تعرض الكثير من السجلات الرسمية للحرق والإتلاف، والذي أدى إلى وقوع المالك في مشكلة عدم وجود ما يثبت حقه بالعقار إلا سند الملكية والذي قد يفقده أثناء القصف أو الهرب أو السرقة.
وبسبب حالات الفوضى في سوريا، أصبح من السهل إلى حد ما تزوير وثائق الملكية وإجبار الناس على الخروج من منازلهم. وقد أدى ذلك إلى معاملات احتيالية ومصادرة أصول عقارية من قبل انتهازيين يستغلون البيئة القانونية الضعيفة. مما يجعل المسألة أكثر تعقيداً عند بيع هذه العقارات لمشتري حسن النية دفع سعرها فعلاً وسجلها قانونياً في السجل العقاري.

أهمية استرداد الملكية
تشير منظمة العفو الدولية في تقرير لها أن مبعوث الأمم المتحدة الخاص بسوريا “دي مستورا” يرى كلأ من الحكومة السورية والفصائل المعارضة متوافقين على أهمية “العودة الطوعية والآمنة لجميع اللاجئين والنازحين داخلياً، وأهمية جعل عملية استرداد المُلكية متاحة لجميع أولئك الذين عانوا من خسائر أو إصابات نتيجة للحرب” ومع ذلك لم تحدث أي خطوات جدية بهذا الاتجاه، رغم أن ثماني عشرة منظمة حقوقية سورية طالبت دي مستورا بمنح الأولوية لاستعادة المُلكية كواحد من خمسة موضوعات للعدالة الانتقالية يجب أن تتحقق من أجل أن يكون السلام والاستقرار على المدى الطويل ممكناً.

إن عدم حل مشكلة استرداد الملكية بشكل سريع ودقيق قد يؤدي إلى تفاقم حالة الاستياء عند الناس وبالتالي تأخر موضوع التعايش والسلام الذي يتطلع له السوريون في ظل حكومة مستقبلية جديدة، ولكن لا يستطيع المواطن السوري الثقة أو الاعتماد على النظام القانوني والقضائي الحالي من أجل المطالبة باسترداد الملكية لأن هذا النظام هو نفسه أحد أسباب المشكلة، وعليه، ولإيجاد حل مستقبلي لا بد من سن قوانين جديدة بالتعاون مع خبراء دوليين عملوا في هذا المجال في بلدان تعرضت لذات المشكلة مثل البوسنة وكمبوديا، وإيجاد نظام قضائي مستقل، مع مراعاة الدقة والعدالة والسرعة في الأحكام والإجراءات. من الممكن أيضاً تأسيس هيئة خاصة ومستقلة مسؤولة عن استرداد الملكية تتلقى الدعاوى وتحقق فيها وتصدر القرارات اللازمة لإعادة الحق لصاحبه. ونظراً لوجود الكثير من السوريين النازحين واللاجئين في سوريا وخارجها، فلا بد من تأسيس شبكة من المكاتب الإقليمية والدولية أيضاً تابعة للهيئة المذكورة لتتلقى الدعاوى من السوريين في أي مكان يعيشون فيه. وأن تتاح لمقدّمي الدعاوى فرصة الطعن في قراراتها لضمان وجود مستوى إضافي من المحاكمة العادلة. أما بالنسبة للملكيات التي تعرضت للدمار الكامل، فلا بد من إيجاد سُبل الانتصاف للمالكين كالتعويضات مثلاً. وقد اعترفت الأمم المتحدة بحق المالك بالتعويض إذا ما كان استرداد المُلكية غير متاح، أو عندما يطلب مقدّم الدعوى بشكل طوعي الحصول على تعويض بدلاً من استرداد المُلكية.

حق العودة
من المعروف أن حق العودة إلى الموطن الأصلي هو مبدأ قانوني دولي، وقد نُص عليه في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية وكذلك في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. ولكن “الحق في العودة” إلى بلد ما لا يضمن العودة إلى المدينة الأصلية التي ينتمي لها المواطن، بل يكفي أن تكون أي مدينة أخرى في الدولة. في حال تنفيذ العودة بهذا الشكل، فلن تكون هناك بيوت يسكنها هؤلاء العائدون بل سيقومون بالعيش في المخيمات مثلاً أو عالة على غيرهم دون تمتعهم بأبسط حقوق الإنسان. ولذلك لا بد من أجل الأمان والسلام المستدامين أن تأخذ الدول الأجنبية والمنظمات الدولية هذا الموضوع بعين الاعتبار وأن يكون العمل أولاً على ضمان استرداد المُلكيات ثم تطبيق حق العودة إلى الديار الأصلية.
ينبغي على الحكومات عدم الضغط على السوريين في بلاد اللجوء للاستفادة من برنامج العودة، مما يجعل عودة اللاجئين غير طوعية. كما ينبغي إتاحة خيار التعويض بالإضافة إلى العودة واسترداد الملكية. كما يجب أن يأخذ المجتمع الدولي بعين الاعتبار أهمية جبر الضرر لضحايا التهجير القسري وضمان عدم تعرضهم لأي انتهاك يشكل خطراً على حياتهم أو أمنهم قبل إعادتهم إلى سوريا.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.