سعودية تكتب عن العباءة السوداء كـ هوية مزورة وجسد بديل

سعودية تكتب عن العباءة السوداء كـ هوية مزورة وجسد بديل

نشرت “بي بي سي” مادة كتبتها الأكاديمية السعودية “جواهر صالح” تصف فيها تحول العباءة السوداء في حياة السعوديات لجسد بديل يبتلع الجسد الأصلي ويقلصه ويأخذ مكانه، ويبتلع بطريقه شخصية المرأة وهويتها وكل ما يتعلق بكينونتها.

بعض مما كتبته جواهر:

“تمشين كفتاة سعودية”، كانت هذه العبارة التي قالها لي رجل إنجليزي وهو يمشي خلفي مع زوجته في أحد شوارع لندن.

أوقفني الرجل وزوجته ليسألاني إن كنت فعلا سعودية، ومضى يشرح لي أنه كان في رهان مع زوجته أن الفتاة التي تمشي أمامهما سعودية. كان محقاً رغم أني لم أكن أرتدي الحجاب أو غيره من الثياب التي قد تدل على جنسيتي.

عمل ذاك الرجل البريطاني في دول خليجية عدة ومنها السعودية لفترة طويلة، وشرح لي أن الطريقة التي أمشي بها هي طريقة المرأة السعودية في المشي: خطوات قصيرة بطئية متقاربة مرتبكة، ومضى يروي لي كيف كان يلاحظ كيف تتحرك المرأة وتمشي في الأماكن العامة بطريقة مميزة يسهل التعرف عليها. كان الموقف مضحكاً وشيقاً لكنني لم أتوقف عن التفكير في جسدي منذ تلك اللحظة وكيف كنت أمشي وكأن عباءتي التي لم أعد أرتديها لا تزال ملتصقة بي.

لم أعرف جسدي حتى تجاوزت الثلاثين ولا أعني هنا من الناحية الجنسية فقط، بل لم أعرف جسدي كجزء مني، كان دائما كيانا منفصلاً عني لا أستخدمه للتعبير، لا يعكس ما أفكر به، ولا أستطيع التحكم به.

منذ سن صغيرة في العاشرة تقريبا تبدأ طقوس ارتداء العباءة (أو العباية كما نسميها) وتغطية الرأس في المدارس الحكومية. بحجمي الصغير وبجسدي الطفولي الذي كان يحاول أن يركض ويسابق الحياة، كان يجب أن أرتدي ما يغطي جسدي كاملاً: عباءة سوداء و غطاء وجه أسود.

هاجسي كطفلة كان لا يتجاوز تفكيري في مدى قدرتي على الجري أو المشي بسرعة عندما أسابق صديقاتي بعد الخروج من المدرسة؛ فحارس المدرسة كان يقف دائماً بعصا طويلة متوعداً تلك السيقان النحيلة بالضرب حينما تظهر، بسبب حركة العباءة، أمام الرجال المنتظرين خارجاً.

كبرت كفتاة سعودية وأنا أتعلم كيف أحمل العباءة على رأسي، كيف أحافظ على توازنها وثباتها كمن تحمل جرة ماء طوال الوقت؛ أحمل حقيبة كتبي ويدي الأخرى تحاول أن تغطي ما قد يظهر من جسدي أثناء تحركي. أمشي بخطوات صغيرة ضيقة وساقاي ملتصقتان كي لا تظهر قدماي.

لا أتذكر بشكل واضح كيف تعلمت تلك الحركة المرتبكة للحفاظ على بقاء العباءة على رأسي، ربما من الفتيات الأكبر سناً في المدرسة لكنني حتماً لم أر جدتي أو والدتي ترتديان العباءة (ارتدتها والدتي بعد أن تجاوزت الأربعين من العمر، فلم يعد بالإمكان الخروج والتجول في الأماكن العامة دون ارتدائها خصوصاً في أواخر الثمانينيات). ومنذ ذلك الحين أصبحت عباءتي هي جسدي.

العباءة بمختلف أشكالها، وثقلها، ولونها الأسود دائماً ظلت هي الرمز الوحيد والمقبول للشرف والعفة والستر وكل ماسواها “فتنة”، كان اختيار اللون الأسود مثيرا للانتباه في مدينة كجدة مثلاً حيث تتجاوز درجات الحرارة فيها الـ 50، و تغلفها أجواء الرطوبة العالية بشكل دائم.

لم الأسود؟ لماذا لم يختاروا اللون الأبيض الذي يرتديه الرجال؟ أو الأخضر؟ الأزرق؟ لماذا يتم إختيار لون ارتبط بالموت والحداد في ثقافتنا لنرتديه كل يوم في كل لحظة نخرج فيها إلى العالم الخارجي؟

التصق اللون الأسود وقماش العباءة بكل شي أخر في حياتي واختيارتي: لون الحقيبة، ونوع الحذاء، وكثير من التفاصيل التي ربما التصقت بذاكرة كل فتاة سعودية اعتادت على ارتداء العباءة في تلك الفترة. للأسف هذه التفاصيل تضم رائحة الغبار الملتصق بالعباءة عند العودة من الخارج، واللون الأسود من قماش رديء عندما يترك علامته على حقيبة اليد وربما على الأثاث الذي نجلس عليه. آثار الشمس الحارقة على اللون الأسود، الحيل البسيطة التي نتبادلها لتثبيت العباءة بشكل أفضل وأسهل، تلك المحاولات الممتعة للتمرد على ما نرتديه، عندما نتعمد رفع العباءة قليلاً لنرى ما ترتديه الأخرى تحتها، ومهارة التعرف على الأخريات من خلال العينين.

كانت تجربة مخيفة أن أعامل جسدي بهذه الطريقة في كل مرة أرغب فيها أن أخرج إلى هذا العالم، أن أغطيه بلون الموت، أن أخفي كل ما قد يدل على هويتي، أن أتحرك بطريقة آلية حتى لا تنتهي التجربة برجل من الهيئة ينهرني أو يسيء لي أو لرجال أسرتي. لم أفهم حينها ما الذي تعنيه عيناي لرجل، ما الخطر المترتب على ظهور يديّ أو طلاء أظافري الذي أغضب رجل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وجودي في مكان عام كان رحلة صراع مرهقة، فرغم طقوس الحذر قد ينتهي الأمر برجل الهيئة أو حتى رجل ما لا يحمل أية صفة حكومية بأن يغضب من نظرة أو حركة غير مقصودة أو ضحكة خافتة أو جزء يتمايل من قماش عباءتي السوداء. لذا وحفاظا على سلامتي ووجودي في الفضاء العام كان لا بد من الاختفاء والتلاشي صوتاً وصورة.

لم تكن العباءة مجرد رمز ديني، بل عبء حرص الجميع على أن أحمله أنا وكل نساء جيلي وأن نحمل معه شرف الأسرة والقبيلة والدين، مهمة السيطرة على نزوات أي رجل قد أصادفه في طريقي. فضلت حينها أن أتعامل مع جسدي ككائن آخر لا أنتمي له، و لا ينتمي لي، ولكنه يرافقني كظلي أينما ذهبت.

تغير شكل العباءة كثيراً من ذلك الحين ويبدو أن محاولات التمرد على طريقة ارتدائها قد جعلت العباءة ذاتها وسيلة للتعبير بعد أن كانت قيداً آخر.

عندما زرت مدينتي بعد السنوات الثلاث من التغييرات السريعة التي مرت بها المملكة، كان المشهد مختلفاً، ما زالت العباءة السوداء شائعة لكنها لم تعد ذلك الرداء الموحد المثقل بتلك القيود و أجواء الترقب: الألوان، والمكياج، والطرق المختلفة لارتدائها، وإظهار الوجه، واللون الأسود الذي بدأ بالتلاشي، حركة الفتيات التي أصبحت أكثر حيوية و أقل أرتباكاً، ألوان الأظافر وإكسسورات اليدين الظاهرة، أصوات الضحكات العالية، الرقصات في الأماكن العامة أحياناً، الأجساد التي تمشي وتتقارب دون خوف، كان مشهداً يقترب من الطبيعة الإنسانية أكثر. حتى بوجود عباءة سوداء مازالت تحاول السيطرة على المشهد.

الصورة من المقال الأصلي المنشور في “بي بي سي”

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.