بغداد – علي الكرملي

كنتُ ألتقط صُوَراً لرسَومات التحرير، وصلتُ لرَسمَة ”شغَب – شعَب“، وجدتهُما يجلسان عندها، استأذنتهُما، وافَقا، التقطتُها، طلَبا رُؤيتها، جلستُ معهُما، من هُنا بدَأَت الحكايَة.

”سارَة وأمجَد“، أو ”أمجَد وَسارَة“،  في النصف الثاني من عقدهما الثالث، لم يُكملاه بعد، هي بعمر الـ /٢٥/ وهُوَ يكبرُها بِعام، يُحِبّان بعضهما حُباً لا حَدَّ له، ولا وصفَةَ له أيضاً.

أمجد وسارة- كاميرا الحل العراق

قالَ: «بدأَت مسيرتُنا منذ أعوام سِت، منذ الصف الجامعي الأول». تقول: «أنا مَن تجرّأتُ وغازَلتهُ أوَّلاً، كانَ ذلك في شتاء ٢٠١٣، بالضبط في امتحانات الفصل الدراسي الأول».

«خجِلتُ من كلامِها واحمَرَّ وَجهي، بالكاد خرجَت مني كلمَةٌ ”شُكراً“، ”شُكراً“ لوحدها يتيمة لا أُختَ لَها»، يقول أمجد. «كانَت كافيَةً؛ قياساً لذهوله، أحسُسْتُ بشلَلِ لسانه حتى نطقَها»، هيَ تقول.

اليوم هُما في #ساحة_التحرير حيثُ قلب بغداد النابض، يتواجدان بها منذ انتفاضة /٢٥ أكتوبر/، ولا يزالان، لكنَّهُما يلتقيان خِلسَةً، خوفاً من أهلِها وأهله، يقومان بأعمال جَبّارَة.

«اتّفَقنا أَن نلتقي تحتَ نصب الحُرّية في أول يوم، عَسى أن تتحقَّق حُرّيتنا التي ننشدُها، وهُما حريتان لا واحدة، حُريّة الوطَن، وحرّيتنا من كُتَل الأهل الكونكريتية التي تمنعُ ارتباطنا»، يقول كما تقول.

الشابان المُتحدّيان لجبروت أهلهما، لَم يقِفا عندَ حدود التظاهُر فقَط، «اكتشَفنا أن الاحتجاج بالهتاف وحده لا يكفي، لذلك رِحنا نحو الدعم بشتى أنواعه، لم نترك شيئاً إلاّ وفعَلناه».

بعد أيامٍ ثلاث من الاحتجاج، ضاعَفا المَسار، زادا الاحتجاج بدعم المفارز الطبية بما تحتاجه من أدوية وإسعافات، يشترونها من جيبهما الخاص كُلّ صباح، ويذهبان بها نحو المفارز.

في ساحة التحرير، التظاهرات ليست كما بقية المعمورة في البُلدان القارَّة، أن تتظاهر في بغداد، معناه أن تواجه العُنفَ والقمع بكل الطرق، فسلطات بغداد ترفض الاحتجاج وإن كانَ سلمياً مائةً بالمئة.

يقوم المحتجون أنفسهم، بإسعاف الجرحى وإنقاذهم، يقومون بتنظيف الشوارع كلّ دقيقة وساعة، يقومون بإعداد الطعام على مدار اليوم، يُطعمون به المُتظاهرين، فلا مكان للجوع هُناك.

إحدى اللوحات المرسومة في نفق التحرير- كاميرا الحل

تلك الأعمال كُلها تطوعية، من الشعب للشعب، لا مكان آخر لغير الشعب، يقوم بها أفراد منفردين، وعوائل، وطلبة، وفرقٌ موحّدَة، ومُتطوعون من بعض المُنظمات الأصيلة لا الخادعة، وآخرها من العُشّاق.

سارَة وأمجَد لم يبقيا عند الاحتجاج والتنظيف، صارا يُزوّدان المعتصمين بمؤونات الأكل والشرب الجاهزة، يأتيان بالسندويشات والمشروبات الغازية وجبة واحدة كل يوم، وجبة الغداء، على قدر امتلاكهما من المال.

هؤلاء الشابان، يبدُوَ وكأن وطنهما هو الخيط المتين الذي يربط قلبهما معاً، ولأنهما خريجا أكاديمية الفنون ببغداد، لم يترُكا الفرصة بأن تفوتهما، ولأن «حُب الوطَن من الإيمان»، رسَما لهُ ونَفّذا حُبّهُما له، ليس كمن يقولها ولا يَفعَل.

”كَفى“، هيَ كلمَةٌ خَطّاها على أحَد جُدرانات نفَق التَحرير، «هِيَ مُفردَةٌ لَها معنَيان، وتحملُ مطلبان، عامٌ وخاص، كَفى للسُرّاق وللسلطة الفاسدة، وكَفى لذَوينا، نُريدُ الزواج»، يقولان لـ ”الحَل العراق“.

سارة وأمجَد، وجَدا منَ التَحرير مُتَنَفّساً لهُما باللقاء كل نهار، فبَعدَ تخرجهما أمسى منَ الصعوبَة بِمَكان أن يَلتَقيا، في السابق كانَت الجامعة تجمعهُما، اليومُ يحمدان التَحرير التي جمعتهما وتجمعهُما.

رفضُ عائِلتيهِما لا يعود لأسباب طائفيَّة، فالأخيرة أمسَت ساحَة التحرير مقبرتُها الأبَديّة كما قالها الفنان العراقي ”جلال كامل“، إنّما الرفض دوافعه الفوارقُ الطَبَقيَّة، هي من عائلة فاخرة، وهُوَ من عائلة ميسورة، لكن ليسَ بفخامَتها.

أسبوعان مَرّا على وجودهما في الميدان، أسبوعان من اللقاءات المُتَتالية اليومية، لم يحلُمان بها مُطلَقاً، لكن الوطَن فعلَها وجمعهُما تحتَ مِظَلّتِه، ومع ذلك لم تخلو لقاءاتهما من المُغامرات.

صادَفا ذويها مرّتان، وفي المرّتَينِ نجحا في التخبّي، الأولى سارَعا في التخفي وسَطَ الحشود، بينَما ارتَدَيا الخوذة والكَمامَة حتى أعلى أنفهما في الثانية، هربا من المرّتين لكنهُما لا يعلَمان إن كانَت هنالك مُغامرةٌ ثالثة تنتظرهما.

سارَة بنتُ #الكَرخ، وأمجَد ابنُ #الرصافَة، اللائي يفصلهُما #دجلة عن بعضهما، تجمعُهما التحرير المُحاذية لذات النهر الذي كانَ يُفرّقهما قبل تشرين، بحُبهما سَطّرا أروعَ قُصَّةٍ للوطَن، وأثبَتا أنَّ الحُب أقوى من العُنف.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.