عُرف الإعلام السوري منذ ستينيات القرن الماضي، بكونه أداة أخرى لخدمة النظام والحزب الحاكم. بتفرعاتها المرئية والمقروءة والمسموعة، قدمت وسائل الإعلام السورية محتوى باهتاً خاضعاً لقيود السلطة ومنفصلاً عن واقع السوريين، ورغم مرور بعض الإعلاميات والإعلاميين الأكفاء في مسيرة الإعلام “الرسمي”، إلا أنهم لم يستطيعوا فرض أيّ تغيير على نمطية محتواه، وبعد انطلاق الثورة عام 2011، بدأت منصات الإعلام «البديل» بالظهور، وبداية كانت مهمتها الأساسية نقل الواقع الذي حاول الإعلام الرسمي طمسه، ثم بدأت تحتل حيزاً أوسع واعتمد الكثير منها كوسائل إعلامية بديلة.
كانت التوقعات من هذه المنصات كبيرة، ليس على مستوى المحتوى فحسب، بل على مستوى القوانين الناظمة لأجواء العمل وحرية الرأي والتعبير، واحترام العاملين في الفضاء ذاته.
أول من استبشر خيراً بالإعلام “البديل” هن الصحفيات والإعلاميات والمواطنات الصحفيات السوريات ومن بحكمهنّ. إذ كانت أغلبهن على يقين بأن مفاهيم التمييز على أساس النوع الاجتماعي (الجندر) والمحسوبيات والتسلط لم يعد لها مكان، والآن سنحت الفرصة للتعبير عن النفس وأخذ الفرص المستحقة. إلا أن تجارب الكثيرات منهنّ في العمل مع الوسائل المذكورة لم تكن على قدر المتوقع. لا نحاول هنا إطلاق حكم معياري على أداء الوسائل وإداراتها بقدر ما هو استطلاع لآراء صحفيات وإعلاميات ومواطنات صحفيات سوريات من خلال تقييمهن لتجاربهن مع «الإعلام البديل».
رولا أسد – صحفية ومؤسسة شريكة والمديرة التنفيذية لمؤسسة «شبكة الصحفيات السوريات»
تقول «رولا»: من حيث «أعداد النساء العاملات في مجال الصحافة والإعلام، لم يشهد هذا القطاع ازدياداً ملموساً، إلا أن التغيير السياسي الذي حصل في سوريا تبعه تغيراً في المشهد الإعلامي من حيث المحتوى وانخراط النساء بالعمل الإعلامي سواء صحفيات أو من خلفيات صحفية».
على صعيد آخر، أخذ النقاش النسوي في المجال الإعلامي حيزاً أكبر، وبرز سؤال هل العمل الإعلامي نسوي أم لا، إضافة لمراجعة سياسيات تتعلق بالتحرش في مكان العمل، وإجازات الأمومة، حيث أصبح الإعلام الذكوري، الذي كان سائداً، موضع شك ومسائلة. وترى رولا أن التواصل مع ثقافات مختلفة في السنوات الأخيرة، بحكم اللجوء والانتقال لدول أخرى، ساهم بالمسائلة إلا أنها لم تأخذ شكل الضغط الجدي.
وتضيف «رولا» ورغم المحاولات الخجولة لتطبيق مبدأ إلغاء الفروق القائمة على النوع الاجتماعي في فضاءات العمل الإعلامي (الناشئ) إلا أن التعامل مع النساء العاملات في هذا المجال ما يزال محفوفاً بالقلق من عوامل بعضها قائم فعلياً وبعضها مفترض من المسؤولين في هذه المنصات، مثل ارتباطات المرأة العائلية واضطرارها لإتباع عائلتها في قرارات السفر أو ترك العمل تحت ضغوط معينة، مضيفة أن بعض المؤسسات الإعلامية تنظر إلى موضوع الإنجاب على أنه عبء محتمل على المؤسسة من ناحية إجازات الأمومة المحتملة للنساء العاملات في المؤسسة وما يترتب عليها من التزامات مادية.
وتلفت «رولا» في سياق حديثها عن الإعلام «البديل»، إلى الدور الذي تلعبه المنظمات أو المؤسسات الدولية الممولة لهذه المنصات، حيث لا تفرض هذه الجهات سياسات أو بروتوكولات واضحة للتعامل المهني مع النساء، إنما يبقى تطرقها لسياسات العمل الداخلية في إطار مشاركة تجربتها وتقديم اقتراحات.
وتختم «رولا» مداخلتها بالتأكيد على أن التغيير يحدث بشكل تراكمي ويحتاج لوقت وأننا بتنا نرى تغييراً لمصلحة النساء في المحتوى الإعلامي.
رند صباغ – صحفية سورية
تقول «رند»، في بداية «الثورة في سوريا عام 2011، توقعت أن يأتي انفتاح الإعلام وتنوع وسائله وتوفر فرص العمل، كنتيجة حتمية، لكني لم أتوقع أبداً أن يختفي منطق الذكورية في التعامل باعتبارها صفة متجذرة في مجتمعاتنا، وليست مرتبطة مباشرة بنظام سياسي أو غيره. ففي مؤسسات النظام الإعلامية الموضوع لم يكن مبني على النوع الاجتماعي خارج الشكل المجتمعي المعتاد، إنما كان قائما على المحسوبيات وأشكال التواطؤ السياسي»، مشيرة إلى أن ما كانت فعلاً تنتظره بعد الحراك الثوري هو العمل بحرفية أعلى وبمساحة من الحرية والديمقراطية، والوصول لصحافة حرة بغض النظر على مواضيع النسوية والمساواة التي لم تشغل الحيز الأكبر من تفكيرها.
وتلفت «رند» إلى أنه كان لها تجارب ناجحة بالعمل الصحفي قبل الثورة بغض النظر عن كونها امرأة، وأنها تولت مواقع إدارية فعالة. وبعد الثورة أيضاً كانت تحظى بمعاملة لائقة باعتبارها صحفية محترفة ولديها خبرة جيدة في العمل الإعلامي. مؤكدة تعرضها لمحاولات تسلط ذكورية إلا أنها استطاعت حسمها مباشرة.
أما على صعيد عملها الصحفي مع مؤسسات «الإعلام البديل»، فتقول «رند» إن «تجاربها في هذه المنصات كانت محدودة، حيث كانت تعمل لوقت طويل مع مؤسسات إعلامية عربية، وأخذت مساهمتها في الإعلام البديل شكل المشاركة في تأسيس بعض المنصات وتدريب كوادر بعض المنظمات الإعلامية وكتابة الأبحاث المتعلقة كما عملت كاستشارية لتقييم المحتوى». ومن خلال تجاربها لمست رند تسلط واحتكار من بعض الرجال والنساء ممن يحصلون على تمويل لمشاريع إعلامية حيث ينفرد معظمهم بالقرار ويستخفون بتجارب وخبرة باقي فريق العمل.
وبالعودة للشق النسوي والمساواة في الإعلام البديل، توضح «رند» أنها لا ترى المشكلة تكمن بتعامل المؤسسات معها كأنثى وجزء من فريق العمل، مع أنها شخصيا واجهت رفضاً لتوظيف في مؤسسة إعلامية بتركيا بناء على هويتها الطائفية والجندرية، إنما المشكلة الحقيقية برأيها هي كيفية تعامل هذه المؤسسات مع الجمهور المستهدف من النساء، وإصرارها على تأطيرهنّ ومخاطبتهنّ من خلال محتوى متعلق بالأمومة والجمال والمطبخ.
أما عن ما يتوقعه غالبية المسؤولين عن وسائل الإعلام من الصحفيات والإعلاميات هو أن ينتجنّ محتوى متعلق بالنساء مثل أمور الجمال والأمومة واحتكار الذكور العاملين في نفس المجال لمواضيع السياسة والاقتصاد أو حتى المواضيع الثقافية بشكلها التحليليّ وليس التوصيفي. كما يطلب من النساء في هذا المجال غالباً أن يكتبنّ عن تجاربهنّ الشخصية بأسلوب التدوين، وهذا من شأنه ترسيخ الأنماط الإعلامية المقدمة للجمهور المستهدف. تقول «رند».
وتختتم «رند» بالقول «من المهم تقييمنا كنساء كأنداد للرجال العاملين بنفس المجال، وأن نخرج من الأطر النمطية الجديدة المحصورة بتقديم محتوى نسوي فقط، وأن نتجه لتقديم محتوى منوع، ونناقش الفكر والسياسة والثقافة والاقتصاد والرياضة، وأخيراً أن يزداد عدد صانعات القرار بالمؤسسات الإعلامية.
رزان حسان– مخرجة ولها تجربة بالعمل الإعلامي
«رزان» أيضاً كانت من المتفائلات بالتغيير في التعاطي مع النساء في الفضاء الإعلامي، بعد انطلاق الثورة، إلا أنها سرعان ما أدركت بعد تجربتها مع بعض منصات «الإعلام البديل» في تركيا أن القائمين على هذه المنصات يعملون بذهنية شبيهة بمؤسسات إعلام النظام في سوريا.
تقول «رزان» إنها كانت تعمل في وسيلة إعلامية سورية، في تركيا، تحت إدارة امرأة إلا أن توجهها كان «ذكورياً»، لافتة إلى الاستغلال التي تعرضت له، حيث كان يطلب إليها إنتاج محتوى يفوق بكثير المقابل المادي البخس، بحجة أن من واجبها دعم القضية التي تؤمن بها، هذا ما وصفته رزان بـ«الاستغلال والتحايل على بعض الموطفين لتحقيق مكاسب». في الوقت ذاته لفتت «رزان» لمهنية مديرة الموارد البشرية في نفس الوسيلة الإعلامية، حيث رأت فيها مثالاً للشخص المهني والأخلاقي في التعاطي مع الموظفين.
وعن هيمنة الذكور على المجال الإعلامي والكثير من المجالات الأخرى، تعيد «رزان» هذا إلى ثقافة المجتمع السوري المليء بالأدوار النمطية والمحرمات، فالمجتمع الذي يحصر المرأة بأدوار معينة ويقر بتفوق الذكر لن يتخلص من هذه العقلية في ليلة وضحاها في الفضاءات الإعلامية.
تشارك «رزان» أغلب الصحفيات والإعلاميات اللواتي تحدثن إلينا، الرأي، بأننا بحاجة إلى نساء أكثر في أماكن صنع القرار وإدارة المؤسسات الإعلامية السورية، هذا من شأنه أن يعزز حضور النساء وتطلعاتهنّ ورؤيتهنّ لكافة القضايا ابتداء بالسياسة مرورا بالاقتصاد والمجتمع والرياضة والثقافة.
علا الجاري – صحفية سورية
تقول «علا» عملت مع وسائل إعلام مختلفة بين عام ٢٠١١ و٢٠١٥، بينها وكالة أنباء ومحطة إذاعية وعدد من المجلات والجرائد والمواقع الإلكترونية، أتيحت لي الفرصة لأن أكون مشاركة بالتأسيس والتطوير، كما شغلت أكثر من وظيفة إدارية، لا يمكنني أن أقول أنني تعرضت لأيّة صعوبات ذات صلة بكوني أنثى، إلا من خلال صعوبة العمل الميداني في بعض المناطق، حيث أتيح لزملائي تغطية بعض الأحداث في شمال سوريا ميدانياً في أماكن هذه الأحداث، بينما لم يكن متاحاً لي كأنثى أولاً، وغير محجبة ثانياً، التواجد في هذه الأماكن، وكان السفر إليها على مسؤولية المؤسسة التي أعمل معها مستحيلاً إذ أن الخطر كان حقيقياً ومحتملاً جداً. عدا ذلك لم أشعر بأي قيد يعيق عملي الصحفي بسبب كوني أنثى.
من خلال تجربتها بالعمل الصحفي تقر «علا» أنها لمست مشكلات جوهرية مشتركة بين «إعلام النظام» و«الإعلام البديل»، أولها وأهمها على الإطلاق غياب التخطيط أو ضعفه إن وجد، إضافة إلى غياب خطط الاستدامة، الأمر الذي قد لا يبدو واضحاً لدى وسائل الإعلام المدعومة من النظام أو الجهات المرتبطة به من خلال تدفق المال إليها بشكل مستمر، لأغراض سياسية وغير سياسية، في حين تبدو أكثر وضوحاً لدى مؤسسات «الإعلام البديل» المعتمدة حتى اليوم على دعم المنظمات المختلفة دون تأمين مصادر دخل خاصة بها أو حتى مصادر تمويل مستقرة تضمن لها الاستمرار، دون أن ننسى غياب أو قصور المعايير المهنية في اختيار الإدارات وحتى العاملين في بعضها. هذه المشكلات يعاني منها بالتأكيد الصحفيون والصحفيات على حد السواء.
غالباً يشغل الرجال المناصب الإدارية في معظم المؤسسات. النساء موجودات لكن بنسب ما تزال تعتبر قليلة، وكما ذكرت أتيح لي أن أشغل أكثر من وظيفة إدارية وتعاملت مع زميلات صحفيات في المؤسسات التي عملت معها أو تقاطع عملي مع عملهنّ، وفي معظم الأحيان كانت العلاقات إيجابية تتسم بالتعاون والمحبة، خاصة أننا كنا جميعاً مرتبطات بهدف واحد وحلم واحد. بالتأكيد لا يخلو الأمر من المنافسة السلبية في بعض الحالات، إلا أن هذه المشكلة أيضاً ليست وقفاً على النساء العاملات في هذا المجال بل يعاني منها الرجال أيضاً. وفق «علا».
تضيف «علا»، رغم كل المشكلات السابقة إلا أنني شخصياً وجدت في مؤسسات «الإعلام البديل» مساحة لتحقيق الذات لم تكن متاحة في وسائل «إعلام النظام»، لأنها على الأقل لم تكن في حينها منابر للدعاية والبروباغندا، على الأقل الجهات التي عملت معها.
وعن رأيها بخلق وسيلة إعلامية تديرها وتنتج محتواها نساء فقط، تؤكد «علا»، أنها شخصياً لا تفضل المنصات القائمة على النوع الاجتماعي (الجندر)، وتحلم بمؤسسات مهنية يعمل فيها الجميع على أسس ومعايير مهنية، إلا أنها تتفهم وجود مثل هذه المنصة في ظل عدم تحقق المعايير السابقة حتى اللحظة، وتستطيع أن تتخيل كيف يمكن لهذه المنصة أن تعبر عن هموم وطموحات النساء التي لا تعيرها وسائل إعلام أخرى اهتماماً، أو لا تعتبرها أولوية. متمنية في حال وجود هذه المنصة أن تصنع الفارق من خلال توعية النساء وفتح أعينهن على الحقوق التي يجب أن يطالبن بها وتعليمهن الآليات الصحيحة للمطالبة بهذه الحقوق، إلى جانب الاهتمام بالمواضيع التي تحاكي مشكلاتهن ومعاناتهن اليومية، والمواضيع الترفيهية والفكرية الضرورية لكل إنسان.
وتختتم «علا» بالقول كل ما ذكرته موجود في بعض وسائل الإعلام التي تخصص مساحة معينة للنساء، إلا أن منصة متخصصة قادرة على إشباع النقص الموجود حالياً، وهذا هو الفارق الأساسي، بالتأكيد إذا قامت على أسس مهنية عقلانية دون الاكتفاء بالهوية الجندرية كسبب وحيد للوجود.
هيلين تاج الدين – مهتمة بدراسة الصحافة
تجربة «هيلين» مختلفة كونها ما تزال تشق طريقها في عالم الصحافة والإعلام، تقول إنها شغوفة بهذا المجال وأرادت أن تختبر العمل الإعلامي عن كثب، فتقدمت لتدريب في تلفزيون سوري يبث من تركيا، لتعمل كمذيعة، إلا أن المشكلة التي واجهت هيلين كانت أن إدارة القناة لم ترحب بظهور مذيعة «غير محجبة» على شاشتها.
تقول «هيلين» إن مدير القناة «لم يرقه مظهرها الخارجي، وتم الاعتذار عن التعامل معها»، مشيرة إلى أنها «أصيبت بخيبة أمل كبيرة كونها لم تتمكن حتى من اختبار أجواء العمل، إلا أنها أصرت على مشاركة تجربتها لتلفت النظر لسياسات بعض المؤسسات المخالفة لقوانين العمل المنصوص عليها دولياً».
المضحك المبكي، على حد وصف «هيلين»، أن صديقتها المقربة لاقت رفضاً للتوظيف من وسيلة «إعلامية بديلة»، وعلمت من بعض الموظفات لاحقاً أن الإدارة تفضل توظيف نساء غير محجبات حفاظاً على صورتها وتوجهاتها.
ما استخلصته «هيلين» المقدمة على دخول الحقل الإعلامي أن «الوسيلتان متطرفتان وذكوريتان»، لان رفض التعاقد معهما أو منحهما فرصة للتدريب، هي تمييز ومصادرة للحريات الشخصية واستغلال هؤلاء لمناصبهم لممارسة تسلط ذكوري واجتماعي ولفرض صورة المرأة التي يريدونها وتناسب توجهات مموليهم.
الشهادات التي شاركتنا بها زميلات لهنّ تجارب ناجحة في الإعلام، تؤكد أن وضع العاملات في الصحافة ومعوقات وصولهن إلى مواقع صنع القرار في المؤسسات الإعلامية، هي ذاتها تواجه النساء في مختلف ميادين العمل، هذه المعوقات التي لم تغير؛ أو تتغير حتى في البلدان التي شهدت ثورات الربيع العربي، ومنها سوريا، وما تم إثارته من الزميلات حول هيمنة الرجل على المؤسسات الإعلامية، لا بد من الوقوف عنده، خاصة أن جميعهنّ- أجمعن- أن هذه النقطة بالذات تعتبر إحدى المعوقات الأساسية أمام تطور الصحفيات، والنقطة الأخرى التي لا بد من إعادة النظر فيها؛ هي وضع مؤسسات «الإعلام البديل» التي لم يقدم معظمها شيئاً مختلفاً لا مهنياً ولا مؤسساتياً عن الإعلام الرسمي.
صورة المقال من News Laundry
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.