اغتصاب متكرر باسم القانون
“كنت أعمل في مكتبي لوقت متأخر، عندما خرج المدير من مكتبه الخاص وألقى علي التحية وبدأ بالإطراء علي كوني الوحيدة من بين زملائي أعمل بهذا القدر من التفاني. اقترب مني بحجة رؤية الورق الذي أكتبه، ثم بدأ بلمس شعري ووجهي وأنا أحاول الابتعاد دون جدوى. قام باغتصابي وأنا أصرخ وأضربه بكل ما أوتيت من قوة. لم أتمكن من إبعاده عني أو من إثارة شفقته ليبتعد.

بعد أن انتهى انصرف عني إلى مكتبه وابتسامة النصر على وجهه. عدت إلى منزلي وأنا بحالة يرثى لها. عندما رأتني والدتي عرفت فوراً أن شيئاً قد حدث، وأنا بدوري أخبرتها بكل شيء لأنني أعلم أن أهلي سيستوعبون أنه ليس خطأي. أبي رجل طاعن في السن. بكى بحرقة وهو يستمع إلي وشعوره بالعجز لم يكن أقل من شعوري به وأنا بين يدي مغتصبي. أخذني أبي في اليوم التالي إلى المحامي وقد وضح لنا الأخير أن أمامي طريقين: إما أن أدعي على المغتصب وأزجه بالسجن مع الأشغال الشاقة خمس عشرة سنة على الأقل (ولكن هذا سيتطلب مني إجراء الكثير من الفحوصات الطبية والشهادة في المحكمة علنياً أنه تم اغتصابي)، أو أن أتزوج بمغتصبي وأستر نفسي وفضيحتي.

مرض أبي بشدة ذلك اليوم، وكنت خائفة جداً من كل شيء. أخبرته أنني موافقة على الزواج بمديري، ولكن المدير لم يعرض هذا أصلاً. في اليوم التالي عرفت أن أبي طلب من المحامي أن يتحدث مع المدير، والذي بدوره خاف من السجن واتفق معه ألا يتم رفع الدعوى مقابل أن يتزوجني.
لقد كنت كمن تسير إلى النار حافية القدمين. لم أتمكن من مسامحته رغم أنني حاولت. لم أستطع أن أسمح له بالاقتراب مني، كيف أمنحه جسدي الذي أهانه يوماً وقلبي الذي كسره. هو أيضاً لم يكن يحفل بي كثيراً ولكنه يتلذذ بإهانتي وتذكيري بأنه يستطيع فعل ما يريد وقتما يشاء.

تطلقنا بعد عدة أشهر. لا أعرف ما إذا كان على أن ألومه هو فقط، أم أنها نظرة المجتمع للمغتصبة هي التي ضيّعت حقي. ألوم نفسي أحياناً أنني لم أزجه بالسجن، ولكنني كنت أعلم أن هذا الفعل سيجلب العار لأسرتي وأختي الصغيرة. رغم كل الألم الذي أحسست به وأنا أقدَّم كمكافأة لمغتصبي على جريمته، لن أرضى أن يمشي والدي أو والدتي مكسورين بين الناس بسببي. كان علي أن أستر نفسي وعائلتي”. س.و – 24 سنة.

الغاية من تشريع القوانين هي حماية الناس، ولكن ولذكورية المجتمع السوري، نرى أن القوانين الخاصة بالاغتصاب تسلب من المرأة ما تبقى لها بعد اغتصابها. يتباهى المشرع بإلغاء المادة 508 والتي كانت تعفي المعتدي من العقوبة في حال زواجه من الضحية، وبأن القانون الجديد يحبس المغتصب سنتين كاملتين (بحال رفعت دعوى) إن تزوج ضحيته. متعامياً عن حقيقة أن الزواج أصبح مكافأة وتشجيع لمرتكبي العنف الجنسي ضدّ النساء، وانتهاك لكرامتهن وحريتهن وحقهن باختيار الزوج، فبدلاً من معاقبة المجرمين على جرائمهم، كان الحل بالضغط الاجتماعي على الفتيات للزواج لمنع الفضيحة.

يمنح هذا القانون المغتصب الحق باغتصاب ضحيته مراراً وتكراراً، وربما مدى الحياة. إلا أن هذا الزواج غالباً ما ينتهي بعد فترة قصيرة، لعدم تمكن المرأة من تقبل مشاركة مغتصبها لحياتها وجسدها، ويعود المجرم حراً طليقاً، وقد يعيد ارتكاب جريمته مرة أخرى، مادامت العقوبة هي مكافأة من جنس الجريمة. كما يثير هذا القانون جدلاً كبيراً حول مشروعية الزواج الذي يعتبر وسيلة لنجاة المجرم وعقوبة للمرأة حيث تجبر بموجبه الضحية من قبل أسرتها عادة على زواج مبني على الإكراه لا الاحترام.

اكتمال الاغتصاب شرط للعقاب عليه
ولكن لنعد خطوة إلى الوراء ونرى ما هو تعريف الاغتصاب في قانون العقوبات السوري. تنص المادة 489 على: “من أكره غير زوجه بالعنف أو بالتهديد على الجماع عوقب بالأشغال الشاقة خمس عشرة سنة على الأقل”. هذا التعريف محدود وقاصر ولا يعطي المرأة حق قدرها.
فهو بداية ينحي الزوجة من القائمة، فلا يجوز أن يُسأل الزوج الذي يغتصب زوجته كرهاً، وكأنه بمقتضى عقد الزواج يملك موافقتها سلفاً على الجماع في الوقت والطريقة التي يشاء.
ثانياً، نرى في هذا التعريف أن جريمة الاغتصاب لا تعتبر مكتملة الأركان إلا إذا حدث الاغتصاب بشكل كامل، أما ما تبقى من حالات تدخل تحت مسمى “هتك العرض” الذي يشمل حتى الاغتصاب من الخلف. وهو ما نصت عليه المادة 493 “من أكره آخر بالعنف أو بالتهديد على تحمل أو إجراء فعل مناف للحشمة عوقب بالأشغال الشاقة مدة لا تنقص عن اثنتي عشرة سنة”. فإذا قام الجاني بمراقبة الضحية في الشارع أو بين الأبنية أو الأزقة إلى أن استوقفها وأمسك بيدها ورماها على الأرض ورمى نفسه فوقها مهدداً إياها باستعمال السكين وحاول منعها من الصراخ فدافعت عن نفسها واستغاثت بتجميع بعض الناس أو عناصر الأمن، فإن الأفعال في هذه الحالة لا تعدو كونها من قبل التهتك.

ثالثاً، حتى تحصل الجريمة لا بد من إثبات حصول الجماع بالإكراه. فلا بد أن يقوم الفاعل بالإفصاح عن نيته وأن يقوم بأعمال تنفيذية ترمي إلى تنفيذ مآربه، كأن يختلي بالمجني عليها ويجبرها على الانصياع لما يريد أو ينزع عنها لباسها ويمزقه، أو يقوم بأي فعل يعطي الدليل على الاغتصاب (قرار 35 لعام 1990 محكمة النقض السورية)، كما يشترط ارتكابه بالعنف أو التهديد ولذا فإن عدم صراخ أو بكاء أو اشتكاء أو استغاثة الفتاة وسكوتها فترة طويلة عن الأمر، ينفي وقوع الاغتصاب بالعنف أو الإكراه أو التهديد. (قرار 1381 لعام 1975 محكمة النقض السورية).

“كنت وأصدقائي نسهر في أحد المطاعم، عندما شعرت ببعض التعب. عرض علي أحد الأصدقاء “م.م” والذي أعرفه منذ سنوات أن يوصلني بسيارته لأنني مرهقة. قبلت فعلاً وفي الطريق توقف قرب محل يبيع قهوة مشهورة في المنطقة وجلب لي فنجاناً. بعد أن شربته شعرت بدوار شديد وعلمت أنه وضع لي شيئاً في الفنجان. لم أستطع أن أتحرك ولكنني شعرت به بعد دقائق لا أدري كم طالت يحملني ويدخلني إلى شقة ما. أردت أن أصرخ لكنني كنت مشلولة تماماً. اغتصبني ولم أقاوم أو أصرخ. غبت عن الوعي بعدها، لاستيقظ بعد ساعة تقريباً وأراه يدخن قبالتي وينظر إلي. أخبرني أنه يحبني وبدأ يعتذر مني. بكيت كثيراً ولم أعرف ما أفعل. خرجت إلى الشارع وأخذت سيارة أجرة إلى بيتي ولم أخبر أحداً عما حدث. ظل هذا الصديق/ العدو يطلب مني أن أسامحه لأنه لم يقصد ما فعل، وأن دافعه الحب وأنني السبب لأنني جميلة جداً وملابسي تلك الليلة كانت مثيرة. قدم الكثير من المبررات، وأنا من جهتي كنت خائفة جداً من أن يلقى اللوم علي إذا ما عرف الناس وأن أوصم بقية حياتي فلا يرضى أحد بالزواج بي. كان الوقت متأخراً قليلاً وأنا من قبلت أن يوصلني بسيارته. كنت أعلم أن المجتمع لن يرحمني أبداً إذا ما تحدثت فقررت الصمت. لم تمر سوى بضعة أسابيع حتى علمت أن صديقتي “ر.ن” قد تم اغتصابها من قبل نفس الشاب ولكنها كانت أقوى مني وقررت أن تواجه لا المغتصب فقط بل كل المجتمع المحافظ الذي تنتمي له. عندها شعرت بالقرف من نفسي لأنني سكت. ذهبت إلى المحامي لإعلامه بما جرى وبأنني أود رفع دعوى ضد “م.م” ولكنه صدمني بقوله: “لا يوجد أي شيء يدل على الإكراه، أو العنف. لم تقاومي أو تصرخي. لم ترفعي الدعوى مباشرة. قانونياً لن يتم اعتباره اغتصاباً، فكل الملابسات تدل على أنه فعل تم برضى الطرفين”. ش.ط – 32 سنة.

حواجز اجتماعية في وجه العدالة
هناك معوقات كبيرة للوصول الى العدالة حيث أنه من الصعب على الفتاة المغتصبة أن تقوم بالتبليغ عن الجريمة خوفاً من العار الذي سوف يلحق بها، والخطر المحدق بها من قبل الأهل الذي قد يصل حد القتل أحياناً، وكذلك الخوف من استغلال المجتمع وحتى القائمين على التحقيق بالجناية بسبب ذكورية المجتمع. وفي بعض الحالات يمكن أن تتعرض الضحية للتهديد من قبل الجاني للتنازل عن الادعاء. أو كما يحدث في أغلب الحالات يتم اكراه المرأة على الزواج من المغتصب.
هذا ومن الشائع في حالات الاعتداء الجنسي أن يقع اللوم على الضحية بدلاً من معاقبة الجاني، حيث يبدأ الكلام همساً وصراحةً عن الذنب الذي ارتكبته المرأة التي ترتدي ملابس “مغرية” أو تعود إلى منزلها في وقت “متأخر”، حيث أنها السبب في إثارة المغتصب، رغم أن هناك خطأ كبيراً في هذا المعتقد لأن هناك نسبة عالية من ضحايا الاغتصاب “المحتشمات” على سبيل المثال، ولوم الضحية ما هو إلا وسيلة لاقناع انفسنا أننا بعيدون عن هذا الخطر إلا أن هذا ليس صحيحاً. والقوانين المطبقة في سوريا ما هي إلا انعكاس لمجتمعات ذكورية أبوية، تلوم الضحية دائماً، وتضع مبررات للجاني.

تطول قائمة شرح التفاصيل التي تعتبر بمثابة نقاط سلبية في القانون المجرّم للاغتصاب، ما يدفعنا للتساؤل حول أسباب عدم تعديل هذه القوانين وتطويرها بما يتناسب مع بشاعة الجرم المرتكب بحق نساء المجتمع. إنه الخوف من المجتمع والذهنية المجتمعية التي تعتبر “شرف المرأة وعِرضها” خطاً أحمراً لا يجوز الحديث عنه أو النقاش فيه. وكذلك تراخي المجتمع في المطالبة بالتعديل على أساس أن هذه القوانين غير مهمة مقارنة مع ما اعتادوا عليه من غياب للعدالة في تفاصيل حياتية أكثر أهمية بالنسبة لهم. ولا بد من التنويه إلى أن جزءاً مهماً من المسؤولية يقع على عاتق المجتمع المدني متمثلاً خاصة بالمنظمات النسائية والتي من واجباتها مناصرة حقوق المرأة والضغط على الحكومة من أجل إنهاء كل أشكال التمييز ضدها.

المرأة ضحية مرتين
تقع المرأة ضحية لأمرين، أولهما هو القوانين التي تكافئ الجاني وتدفع ضحية الاغتصاب للزواج من مغتصبها، والثاني هو العادات والتقاليد المجتمعية التي تقف حائلاً أمام تطبيق القوانين التي تسمح للمرأة بهامش من الحقوق وتعاقب المغتصب دون أي استثناءات.

الاغتصاب من أكثر الأشياء المؤلمة التي يمكن أن تتعرض لها المرأة وتترك داخلها ألماً لا يندمل مهما طال بها العمر. الحياة قبل لحظات الاغتصاب لا تشبه الحياة بعدها أبداً، والخوف الذي يسكن المرأة نتيجة لهذه اللحظات مهما طالت أو قصرت لن يزول. أما عن زواجها بالمغتصب فهو ألم لا يمكن تجاوزه حيث يتكرر اغتصابها كل يوم ولكن باسم القانون دون رأفة. إن جمع الجاني والضحية في مكان واحد وضمن علاقة أسرية لا يمكن أن يكون ناحجاً أبداً لأن المرأة في هذه الحالة تجبر على هذه الحياة لأسباب تتعلق بالمجتمع والوصمة التي يمكن أن يطلقها عليها محيطها، وكذلك اعتبارها شريكة في الخطيئة وليست ضحية، وستشعر بالظلم الدائم لكونها أجبرت على هذا الزواج، ما ينعكس سلباً على أطفالها من خلال علاقة قائمة على القلق والقهر وعدم الأمان.

يدفع المجتمع الضحية للقبول بهذه الجريمة الثانية، التي ستزيد من العنف الأسري وتحول دون أن تحصل الزوجة على أدنى حقوقها، وستبقى هذه المرأة منبوذة اجتماعياً من محيطها القريب وينظر إليها على أنها ارتكبت خطيئة ما حتى وصلت إلى ما هي عليه، وكذلك منبوذة من المحيط البعيد الذي ينظر إليها على أنها زوجة مجرم.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.