اندلعت الثورة أو الانتفاضة اللبنانية في 17 تشرين الأول 2019، وما تزال مستمرة حتى اليوم بأوجه مختلفة رغم الضغوطات والثورة المضادة التي أثيرت في وجهها، فما هو أبرز ما نجحت الثورة في تحقيقه؟

قد يكون الإنجاز الأهم للثورة اللبنانية، استقالة حكومة سعد الحريري أواخر شهر تشرين الأول الماضي، بعد أقل من أسبوعين على اندلاع الثورة، فقد طالب الثائرون في الشوارع باسقاط الحكومة، وهو الأمر الذي لم يلق آذاناً صاغية في البداية، ربما على خلفية استخفاف الحكومة اللبنانية بالمتظاهرين والاعتقاد بضعف تحركهم، والقدرة في حال تطوره على اجهاضه بالطرق التي اعتادت الطبقة السياسية اللبنانية على استعمالها في حالات مماثلة كحراك سنة 2017 المجهض.

بعد المطالبة بالاستقالة، خرج الحريري بورقة اقتصادية إصلاحية إنقاذية تلا مضمونها في مؤتمر صحفي، تضمنت خططاً نوعية وإصلاحاتٍ جذرية مؤثرة، لكنها تبدو كلها في الواقع غير قابلة للتنفيذ بناء على المعطيات المتوفرة. وتبع خطاب الحريري، كلمة لزعيم “حزب الله”، حسن نصرالله، الذي رفض علناً استقالة الحكومة، مهدداً من يفكر بذلك تهديداً واضحاً، وخلفية ذلك مفهومة إذ تؤمن الحكومة اللبنانية المشتملة على أغلب المكونات السياسية والطائفية، غطاءاً سياسياً ضرورياً لـ “حزب الله” المحارب والمحاصر هو وإيران من خلفه من قبل الولايات المتحدة الأميركية.

رغم ذلك، يبدو أن حسابات سعد الحريري تغيرت تحت ضغط الشارع، وربما تأمل في تحقيق مكاسب سياسية كأن يبدو مؤيداً لمطالب الجماهير وفي صفهم من جهة، والتخلص من عبء قيود التحالفات السياسية السائدة وتسلط “التيار الوطني الحر” وعلى رأسها وزير الخارجية جبران باسيل، فاستقال بعد أيام من استقالة وزراء القوات اللبنانية رغم تهديدات نصرالله والتوقعات السابقة بتمسكه بالسلطة. أنعشت هذه الاستقالة، الثورة، ورفعت قليلاً من أسهم الحريري شعبياً ولو لفترة مؤقتة، بل وعززت في بعض المناطق مظلومية “سنية”، تم تجاوزها من قبل التشديد على شعارات الثورة وعلى رأسها “كلن يعني كلن”.

في الوقت السابق واللاحق لاستقالة الحريري، عبر “حزب الله”، بشخص رأسه حسن نصرالله، عن قلقه من مسار الأمور وشعوره بشيء من فقدان السيطرة على الشارع، وعدم القدرة على الاحتواء أو الضبط، معبراً عن ذلك من خلال الخطابات المتلفزة المتكررة على نحو يكاد يكون غير مسبوق في 25 تشرين الأول ثم في الأول من تشرين الثاني فالحادي عشر منه، ثم مؤخرًا في 13 كانون الأول، ما عدا التسريبات الصحفية “المقصودة” التي تعبر عن رأي الحزب ولسان حاله سواء عبر محطته التلفزيونية أو الإذاعية أو عبر جريدة “الأخبار”. وفي كل مرة كان الثوار يتجاوبون مع الخطاب المتلفز فيردون عليه في الساحات عبر اللافتات والهتافات والنقاشات المعقودة في خيم الحوار، أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي تعليقاً وتفنيداً وسخرية، كرفضهم ما قاله نصرالله عما يجري أنه ليس بثورة، وعن بعض مطالبه ودعواته، وصولاً على التأكيد ولو الحذر أحياناً على أن شعار “كلن يعني كلن” يشمله هو أيضاً. كل هذا يمثل إنجازاً ثانياً للثورة إذ أربكت “حزب الله” ودفعت لتغيير حساباته وتعاطيه مع الواقع بل ووضعته أمام مسؤولياته كجزء أساس من السلطة اللبنانية الحالة.

أحد أسباب إرباك “حزب الله” تحديداً، وسائر قوى السلطة بشكل عام، هو ما قد يعتبر الإنجاز الثالث للثورة والمتمثل في النجاح بإطلاق حراكها على نحو واسع شمل أبناء كل الطوائف اللبنانية، والأهم من ذلك، عبورها المناطقي إذا شملت تجمعات في مدن وبلدات وقرى على امتداد الجغرافيا اللبنانية من عكار وطرابلس إلى النبطية جنوباً مروراً بشكا والبترون وجبيل وذوق مصبح وجل الديب، إلى جنوب بيروت في برجا وصيدا دون نسيان الجبل والبقاع في مناطق مختلفة منه والحراك الحيوي في بيروت نفسها.

كان هناك وقع خاص للتحركات في المناطق ذات الغالبية “الشيعية” التي لطالما اعتبرت محسوبة على “حزب الله” و”حركة” أمل ومضبوطة منهما، وقد جرت هذه الحراكات رغم المعرفة بالكلفة المرتفعة المترتبة على من يقومون بها في وجه الثنائي القوي والمعتاد على التشبيح والبلطجة. أما الحراك في المناطق المسيحية فقد كان لافتاً إذ كسر شيئاً من الإنكفاء المسيحي، وعبر عن عبور الثورة للطوائف، ساحباً إلى جوار “الحراك الشيعي” سلاح اتهام الثورة بالطائفية أو الفئوية أو المناطقية من يد السلطة.

تحولت مظاهر هذا الحراك مع تطور الثورة، وتنوع أساليب التصدي لها من قبل قوى السلطة التي جربت خلق نزاعات في مناطق ذات حساسية تاريخية لطالما اعتبرت ذات رمزية تخص الحرب الأهلية التي يخاف اللبنانيون العودة إليها، كطريق صيدا القديم الفاصل بين الشياح “الشيعية” اليوم وعين الرمانة “المسيحية”، أو في الكولا التي شكلت منطقة اشتباك بين “سنة” مؤيدين للحريري و”سنة” مؤيدين للنظام السوري ومدعومين من حزب الله، وبين وسط المدينة والأشرفية ومنطقة الخندق الغميق الشيعية التي شكلت منطلقاً لشبيحة الثنائي الشيعي لقمع الثورة. فنفذت قوى الثورة حراكاً للأمهات في مناطق مماثلة رداً على محاولات السلطة خلق نزاعات فيها للتأكيد على رفض النزاع العنيف واستعادات الحرب الأهلية، في خطوة لقيت ترحيباً شعبياً واسعاً وأربكت حتى وسائل إعلام السلطة في تغطيتها الإعلامية لها.

الإنجاز الرابع للثورة يكمن في مرونتها ودرجة الحصانة أو المناعة العالية التي تمتعت بها إلى اليوم، فقد بقيت دون أي قيادة في وجه المطالبة الملحة للسلطة لها بتشكيل وتسمية قيادة، كما طلب حسن نصرالله ورئيس الجمهورية ميشال عون أكثر من مرة، حارمين السلطة من استهداف القيادة المفترضة وتشويه سمعتها وتلفيق ملفات لها بهدف ضرب الثورة. بالإضافة إلى ذلك نجح الشارع في تعرية ورفض كل من ادعى تمثيل الثورة أو النطق باسمها محاولاً ركوب موجتها.

في هذا السياق بالإضافة لعوامل أخرى يبرز إنجاز خامس لافت لا يمكن تجاوزه وعدم الوقوف عنده، هو الدور الأساسي والمحوري للنساء في اندلاع الثورة والمضي فيها والحفاظ على حيويتها من خلال إطلاق الشعارات وقيادة المظاهرات وتأليف الأغاني وترويجها وتنظيم مسيرات في المناطق المتوترة تاريخياً، وحتى مواجهة شبيحة السلطة قوى الجيش والأمن ومكافحة الشغب متلقين الضربات عن الشباب والرجال في مرات كثيرة، حتى يبدو من الصحيح القول أن الثورة النسوية هي جزء أساس من الثورة اللبنانية، وأن هذه الأخيرة لم تكن لتستمر إلى اليوم دون المشاركة الفارقة للنساء فيها كماً ونوعاً.

بالطبع يضاف إلى كل ذلك إنجازات مختلفة كالصمود في وجه العنف والقمع والثورة المضادة والدور المشبوه لبعض وسائل الإعلام في تغطيتها لما يجري وغيرها، وتبقى الأيام والأسابيع المقبلة اختباراً مستمراً للثورة في وجه سلطة لا يبدو أنها فهمت حتى اليوم المأزق التي وصلت البلاد إليه، أو هي تدرك ولا تبالي!

تحرير: رجا سليم

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.