أدى تسارع الأحداث في لبنان إلى بعض الخلط في الترتيب الزمني للأحداث التي شهدها هذا البلد، فجرى أحياناً ربط بوادر الانهيار الاقتصادي باندلاع الثورة، وبث هذه الفكرة بأذهان فئة كبيرة من الشعب المتضرر من الثورة، بدل ربطه بأداء السلطة الحاكمة وفسادها المتراكم.

في الحقيقة أن بوادر بداية الانهيار الاقتصادي اللبناني المتمثلة بتراجع سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي، بدأت فعلياً منذ شهر أيلول الماضي، قبل اندلاع الثورة، وفي وقت لم يكن أحداً يتوقع قيامها أصلاً، فالسعر الرسمي للدولار بالعملة اللبنانية الذي كان مثبتاً منذ ما بعد أخر أزمة سعر صرف كبيرة سنة 1993 على سعر يترواح بين 1500 و1515 ليرة للدولار الواحد، بدأ يختل في أيلول الماضي ببروز فرق بين سعر صرف مصرف لبنان وسعر صرف مكاتب الصرافة الخاصة التي بلغ فيها الدولار 1600 وأكثر في البداية.

لم يتميز تعامل السلطة السياسية المتمثلة في الحكومة وجزء من السلطة المالية المتمثلة في حاكمية مصرف لبنان مع الأزمة بالشفافية، وراج الكلام عن دور للنظام السوري الراغب ي دعم وتحسين سعر صرف ليرته المتدهورة في أزمة الليرة اللبنانية، فقيل إن النظام السوري أجبر مؤيديه من أصحاب رؤوس الأموال على سحب جزء أو كل من إيداعاتهم في المصارف اللبنانية، ما خفض موجودات المصارف اللبنانية بالدولار الأميركي، إذ يتناول الحديث -بحسب الرواية المتداولة- هنا أكثر من مليار ونصف المليار دولار من السحوبات عبر فروع المصارف المختلفة أو آلات الصرف الآلي.

راوية أخرى مدعومة بالأرقام أوردت أن واردات لبنان من النفط ومشتقاته في الأشهر الستة الأولى من العام الماضي 2018 بلغت 1.3 مليار دولار، بينما بلغت عن الفترة نفسها من العام الحالي 2019 قرابة 3 مليارات دولار بفرق غير مبرر يبلغ 1.7 مليار دولار، مع العلم أن هذا الفرق من الإيرادات لم يعاد تصديره عبر المعابر الشرعية من موانئ ومطار ومعابر حدود برية رسمية، وعليه، فُسر الأمر بأنه زيادة في الاستيراد المدفوعة قيمته بالدولار الأميركي لتهريب المشتقات النفطية إلى سوريا التي يعاني نظامها من العقوبات التي تقيد وصول المشتقات النفطية إليه، وأن دفع قيمة هذه المهربات لا تتم دوماً بالدولار ولا تدخل القنوات الرسمية، مما شكل حملاً كبيراً إضافياً على القطاع المالي في لبنان بسبب النظام السوري.

بعيداً عن مصداقية هاتين الروايتين المتداولتين أو غيرهما، لا يمكن بحسب خبراء ماليين واقتصاديين، ربط الأزمة اللبنانية الحالية بأمور مماثلة التي تشكل أرقامها نسبة مئوية متدنية مقارنة بحجم الأزمة المالية اللبنانية الفعلية.

على كل حال تسارع تراجع سعر صرف الليرة اللبنانية خلال أيام الثورة، ولكن ليس بسببها، وعمدت المصارف إلى إغلاق أبوابها وتقييد السحوبات منها دونما سبب واضح، ودون اعتماد سياسية واضحة وشفافة ملتزم بها، مما عزز حالة الضياع والتشوش لدى المودعين من مواطنين وغيرهم.

تسبب أزمة الدولار بخلق أزمات أخرى معيشية مرتبطة بها، طالت كل المستوردات بما فيها تلك الحيوية والتي تدفع قيمتها حين استيرداها بالدولار بطيبيعة الحال، فالمستورد كان يسهل عليه قبل الأزمة تحويل ما لديه من عملة لبنانية إلى دولار لتسديد قيمة فاتورة ما يستورده على أساس سعر صرف 1500 ليرة تقريباً، ولكن مع ثبات سعر صرف مصرف لبنان على 1500 بينما السعر في الواقع أعلى من ذلك، شرع المستوردون والتجار يخسرون من رأسمالهم، فبدأوا بحجب البضائع عن الأسواق مطالبين بحل لأزمتهم عن طريق قبول مصرف لبنان تزويدهم بالدولارات المطلوبة على أساس سعره الرسمي 1500 ليرة، والتي ترفض المصارف الخاصة تزويدهم بالدولار على أساسه.

أدى ذلك إلى أزمة محروقات متكررة، وأزمة أدوية، وأزمة طحين، وفقدان بعض أنواع البضائع من على رفوف المتاجر وارتفاع أسعار تلك الباقية على نحو عشوائي غير مضبوط.
بعد انخفاض سعر صرف الليرة لحدود 2400 ليرة مقابل الدولار الواحد عاد ليستقر في حدود 1900-2100 ليرة للدولار خلال الأيام الماضية، وهو سعر غير مرشح لأن يبقى على هذه الحال لمدة طويلة، بل هو مرشح للارتفاع بقوة في ظل المعطيات الحالية وغياب تباشير أي معجزة تخفف من أعراض الأزمة وتداعياتها.

على هذا الأساس، في الواقع وعلى أسعار الصرف السائدة حالياً، ومنع المصارف المودعين من سحب إيداعاتهم أو تحويلها إلى الخارج، فإن كل المواطنين والمقيمين في لبنان ممن يقبضون أجورهم بالليرة اللبنانية، قد خسروا قرابة ثلث قدرتهم الشرائية خلال أيام معدودة، وكذلك خسر المودعون بالليرة اللبنانية قرابة ثلث القيمة الحقيقية لإيداعاتهم، دون أي أفق للحل ودون أن يجرب أي مسؤول تقديم توضيح واضح وشفاف إليهم عما حصل بجنى عمرهم وبثمن عرق جبينهم. المودعون بالدولار ليسوا أفضل حالاً بكثير، فمصير إيداعاتهم مجهول وهم ممنوعون عملياً من التصرف بها.

شركات كثيرة صرفت بعضاً من عمالها أو امتنعت عن دفع كامل رواتبهم، بل أن عشرات المؤسسات التجارية أغلقت أبوابها إلى غير رجعة، وبدت ملفتةً العروض الخاصة التي تقدمها المطاعم ومحلات الألبسة والأدوات الكهربائية وغيرها في غير موعدها، لتشجع المستهلكين على ارتياد متاجرها ودفع أموالهم فيها، وكانت مثيرةً للانتباه، الإعلانات المتكررة عن الصناديق المعدنية المخصصة لحفظ الأموال، مع إقبال الناس على الاحتفاظ بأموالهم سائلة في منازلهم أو محلاتهم بدل المصارف.

في ظل كل ذلك صحيح القول أن تأثير الأزمة المالية المرشحة للاشتداد قد طال أغلبية الشعب اللبناني والمقيمين، ما خلا فئة شديدة الغنى تبقى أعداد أفرادها محصورة، ولكن الصحيح منطقياً أيضاً أن الأكثر ضعفاً هم الأكثر تأثراً من محدودي الدخل من لبنانيين بالإضافة إلى اللاجئين الفلسطينيين والسوريين وأجانب، كانوا أصلاً يستمرون على قيد الحياة بما يشبه المعجزة معتمدين على أعمال بسيطة غير قانونية ومساعدات عابرة.

كما لم تسلم طبقة العمال والعاملات من الجنسيات الأفريقية والشرق آسيوية من هذه الأزمة، فكل العمال المياومين الذين يتقاضون أجورهم على أساس العمل بالساعة أو اليوم خسروا جزءاً كبيراً من مداخيلهم الهزيلة أصلاً بسبب الأزمة المالية وتأثيرات الثورة من قطع طرقات واضطرار مؤسسات عديدة على إغلاق أبوابها والتوقف عن العمل مؤقتا أو نهائياً، فعامل البناء من اللاجئين السوريين على سبيل المثال يتلقى أجره على يوم العمل، وتوقف ورشات العمل بسبب الضائقة أو الأحداث التي تمر فيها البلاد يعني توقف مدخوله على الفور وإلى أجل غير مسمى.

هؤلاء، ليس لديهم أي نوع من أنواع الإدخار أو الأمان المالي، وهم كانوا تأقلموا أصلاً مع الوضع الاقتصادي الصعب الذي طرأ عليهم بلجوئهم من سوريا حيث كانوا ينعمون ظروف اقتصادية أفضل في أغلب الأحوال، إلى لبنان، حيث حوصروا في قطاعات عمل معينة، مع تضييق قانوني وأمني والكثير من العنصرية، وهم اليوم يجهدون في إيجاد آليات بقاء وتطويرها كالاستدانة وبيع ما يمكن بيعه -إن وجد- أو طلب مساعدة الأقارب في الخارج، بل وكحل أخير يشكل مغامرة لا تعرف عواقبها: العودة تحت ضغط الظرف المالي القاهر إلى سوريا التي تعاني بدورها من أزمات بدل الأزمة بما فيها تلك الأزمة الأخيرة المتعلقة بسعر صرف الليرة السورية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.