ضجت وسائل الإعلام الفرنسية، بعد تسريبات عن آخر تقرير صادر عن مركز “تحليل الإرهاب”، الذي يترأسه “جان شارل بريسارد”، والمتعلق بـ “الجنود الفرنسيين والجهاد”. وقد انفردت صحيفة “لوفيغارو” بنشر مضمون التقرير المذكور والذي سوف يصدر في نهاية هذا الأسبوع قبل أن تتناوله الصحف ووسائل الإعلام الفرنسية الأخرى. ففي الشرق الأوسط وعلى وجه الخصوص في سوريا والعراق أو حتى في فرنسا ذاتها، اختار حوالي 30 عسكرياً فرنسياً اللحاق بالركب الجهادي، وقرروا حمل السلاح ضد بلدهم الأم فرنسا. ومن بين هؤلاء العسكريين، هناك أفراد من “قوات النخبة” والقوات الخاصة والمظليين وحتى من حملة أوسمة الشرف.

وقد تم إلقاء القبض على عسكريين فرنسيين من “قوات النخبة” بتهمة التخطيط لتنفيذ هجمات إرهابية على الأراضي الفرنسية. كما أن عدداً من المظليين ومن أفراد القوات الخاصة الفرنسية أصبحوا قادة وحدات مقاتلة في صفوف تنظيم “داعش” في كلّ من سوريا والعراق. ففي شهر حزيران الماضي، كشفت لجنة تقصي الحقائق البرلمانية الفرنسية عن التحاق حوالي ثلاثين عسكرياً فرنسياً بالشبكات الجهادية منذ الأعوام 2012 و 2013. وإن كان عدد هؤلاء العسكريين الذين أصبحوا جهاديين يبدو صغيراً من حيث الكم، إلا أنه يمثل تهديداً حقيقياً إذا ما تخيلنا الأثر الذي سيتركه الهجوم الذي ينفذه أحد هؤلاء الجنود السابقين على الرأي العام وعلى مؤسسة الجيش ذاتها.

وقد قام “مانون شيميل”، محرر تقرير “مركز تحليل الإرهاب” المذكور، بتوثيق ثلاثة وعشرين حالة من الجنود الفرنسيين السابقين والذين تم التعرف عليهم في صفوف المنظمات الإرهابية، وغالبيتهم في صفوف تنظيم “داعش”. وكان من الملاحظ أنه من بين هؤلاء العسكريين الـ 23 “الحمقى”، والذين ارتدوا الزي العسكري لشهور أو لسنوات، حوالي عشرة منهم كانوا قد اعتنقوا الإسلام حديثاً. كما أن عشرة من أصل الـ 23 عسكرياً المذكورين، كانوا قد خدموا في “وحدات النخبة” في القوات الفرنسية: فيلق الأجانب وقوات المظليين والقوات الخاصة الجوية والمارينز وقوات المظليين البحرية والمشاة البحرية.. أما من تبقى منهم، فقد خدم بشكل أساسي في القوات البرية، باستثناء واحد في البحرية وآخر في القوات الجوية.

وبطبيعة الحال، فقد استفاد جميع هؤلاء الجنود من الدورات التدريبية الواسعة النطاق في التعامل مع الأسلحة والمتفجرات، بالإضافة إلى تقنيات القتال. وكل هذه العناصر مجتمعة تفسر لماذا يعتبر الجيش “هدفاً استراتيجياً” للتجنيد لدى التنظيمات الإرهابية وكيف أن الجنود السابقين يمثلون ثروة حقيقية لا غنى عنها في هذه التنظيمات. وقد التحق قسم كبير من هؤلاء الرجال بالفعل بالركب بعد أن شدّوا الرحال إلى “أرض الجهاد” وتولوا في بعض الأحيان مناصب قيادية واستراتيجية داخل هذه التنظيمات الإرهابية. أما الآخرون “المتقاعسون” والذين لم يتمكنوا من اللحاق بـ “أرض الجهاد”، فقد خططوا للقيام بهجمات داخل الأراضي الفرنسية لاسيما ضد المؤسسات والمواقع العسكرية.

ولكن كيف انتهى الأمر بالجنود السابقين الذين خدموا تحت راية العلم الفرنسي إلى القتال تحت راية أعداء فرنسا؟
يبين التقرير بأنه وكما هو الحال في الكثير من الأحيان مع التنظيمات الإسلامية المتطرفة واعتناق الإيديولوجية القاتلة، فإن الدوافع والسير الذاتية تختلف باختلاف الأشخاص. فبالنسبة للبعض من هؤلاء الجنود الفرنسيين، فإن التطرف تمكن منهم بمجرد انضمامهم للجيش الفرنسي. أما بالنسبة للبعض الآخر، فقد حصل ذلك بعد تركهم للخدمة في الجيش. ومع ذلك، فإن فكرة ومشروع الذهاب والالتحاق بـ “أرض الجهاد” كانت في نية البعض حتى قبل التحاقهم بالجيش. وقد كان هذا حال بوريس (ف) المعروف باسم يونس، والذي انشق عن الجيش الفرنسي بعد أن خدم في قوات الكوموندوس الجوية لاكتساب الخبرة ووضعها في خدمة تنظيم “داعش” فيما بعد. وقد لقي يونس مصرعه بالقرب من مدينة حلب في سوريا في العام 2016. وعلى العكس من ذلك، كان حال العسكري آروان (ج) الذي تطرف بعد التحاقه بالفوج الأول في قوات المظليين. ليلتحق بعد ذلك بـ “أرض الجهاد” في سوريا في العام 2013. لكنه عاد بعد انهيار التنظيم إلى فرنسا. وقد حكم عليه هذا العام بالسجن لمدة أحد عشر عاماً.

أما مهدي وبعد خدمته لمدة خمسة سنوات في المشاة ومهمة خاصة في إفريقيا، فقد رفض في العام 2008 الذهاب إلى أفغانستان لأنه لا يريد قتل المسلمين. وبعد مضايقات من المخابرات العسكرية الفرنسية، قرر مهدي ترك الجيش في العام 2009. وقد حاول بعد ذلك اللحاق بالجهاديين في أفغانستان، لكن تم توقيفه في باكستان في العام 2012 مع العديد من الفرنسيين وكان من بينهم أحد قادة تنظيم القاعدة التاريخيين. وقد تم الحكم على مهدي بالسجن لمدة خمسة سنوات في باريس في العام 2014.

ويشير التقرير إلى أن العديد من هؤلاء الرجال وبفضل خبرتهم العسكرية التي اكتسبوها في الخدمة في الجيش الفرنسي، قد اعتلوا مناصب قيادية واستراتيجية داخل التنظيمات الإرهابية. وقد كان هذا حال عبد الإله (هـ)، مقاتل سابق في قوات النخبة الفرنسية وحاصل على وسام شرف، والذي كان قد ذهب في مهمة خاصة إلى أفغانستان وانقطعت أخباره. حيث تمكن عبد الإله من تشكيل كتيبته الخاصة به هناك. وقد شارك بعض أفراد كتيبته في هجوم باريس في الثالث عشر من شهر تشرين الثاني من العام 2015. أما أسامة (س)، المقاتل السابق في الوحدات الخاصة الفرنسية، فقد تقلّد منصباً رفيعاً في شرطة تنظيم “داعش” في الرقة. وقد تم استخدامه في الحملة الدعائية للتنظيم كما كان حال المظلي السابق أروان (ج) خلال إقامته في تلك المنطقة في سوريا.

أما أولئك (المتقاعسون) والذين لم يلتحقوا بـ “أرض الجهاد”، فإنهم يشكلون كذلك خطراً حقيقياً بل وأشد وطأة. ففي عام 2015، حاول رودريك (س)، الفرنسي التوغلي المعتنق للإسلام حديثاً والمظلي السابق، تنفيذ هجوم ضد الشرطة الفرنسية وعدّة مواقع عسكرية أخرى. وفي العام ذاته، أراد جبريل (أ)، جندي بحار سابق من الدرجة الأولى، قطع رأس أحد الضباط في المنطقة التي كان يخدم فيها. وفي العام 2017، تم إلقاء القبض على آلان (ف)، الذي خدم لمدة عشرة سوات في القوات البرية، وهو مسلح ويرتدي اللباس الميداني الكامل محاولاً تنفيذ هجوم على قاعدة جوية للجيش الفرنسي.

وقد امتدت هذه الظاهرة إلى المحاربين القدماء كذلك. ففي شهر تشرين الثاني الماضي، ألقت المخابرات الفرنسية القبض على فريدريك (ر)، أحد مقاتلي النخبة السابقين والبالغ من العمر ستون عاماً. فبعد اعتناقه للإسلام، قرر هذا الرجل مساعدة مجموعة من الشباب الإرهابيين (بين 18 و 28 عاماً) بكل ما أوتي من قوة. حيث يعرف فريدريك عن نفسه بأنه جندي في تنظيم “داعش” في حربه ضد الجيش الفرنسي.

من جهة أخرى، يشير التقرير إلى أنه ومع الصراعات التي اجتاحت الشرق الأوسط في كلّ من سوريا والعراق، فإن الجهادية باتت ظاهرة اجتماعية. حيث شهد العالم ذهاب الآلاف من المقاتلين إلى كلّ من سوريا والعراق خلال عدّة سنوات في مقابل المئات فقط الذين ذهبوا إلى أفغانستان في الأعوام 1989 و 2001 وحفنة من المقاتلين الذين ذهبوا إلى البوسنة أو القوقاز الروسي.

لكن هذه الجهادية، التي أًصابت الجيش الفرنسي كما أصابت مؤسسات المجتمع الأخرى، لها ماضٍ ينحدر من الزمن الذي كانت فيه الخدمة العسكرية إلزامية في فرنسا. والجنود الجهاديون لهم أسلاف في الجيش الفرنسي في ذلك الوقت الذي بدا فيه الجهاد والتطرف أشياء غامضة وغريبة وبعيدة. ومن بين السلف الجهادي في الجيش الفرنسي، هناك “ليونيل ديمون” الذي يقضي حالياً عقوبة السجن لمدة خمسة وعشرين عاماً بسبب دوره في الفظائع التي ارتكبتها عصابة “اللصوص الإسلاميين” في العام 1996 (سرقات ومحاولة الهجوم بسيارة مفخخة).

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.