تدخل إدلب عامها الجديد تحت وطأة التهجير والقصف، ورغم وقع هذين الفعلين العنيفين إلا إنهما أصبحا أمرين أشبه بالعاديين بالنسبة لمسامع السوريين، بل ومسامع العالم بأكمله. 

لكن الأمر مختلف بالنسبة لقاطني إدلب من المدنيين والمدنيات، فبعضهم كان قد تهجر سابقاً من غوطة دمشق أو من ريف حلب، أو حمص أو من مناطق أخرى، ليستقر بعض الوقت في مدينة #إدلب وأريافها، ويبدو حال الاستقرار في حضرة الحرب أمراً مستحيلاً، فالبقاء بكل أشكاله يتطلب نضالاً جماً، سواء كان بقاء في الأرض أو البيت، أو بقاء على قيد الحياة. 

كيف يمكننا اليوم أن نحب إدلب أكثر ؟ 
ترتبط المدينة بصور الدمار، رغم محاولات العديد من الجهات الصحفية بإظهار صورة مدنية مسالمة عن سبل العيش، وعن عائلات و #نساء_إدلب، وعن كل تجارب المقاومة من أجل الحياة، إلا إنها حتماً ترتبط في الذاكرة بأسماء الجبهات و الفصائل المتطرفة التي سيطرت عليها،  كما تجلب إلى الذهن صور القصف والأشلاء، الجثث والدماء، والكثير الكثير من المعاناة، التي رغم ثقلها أصبحت مكررة ضمن القصة السورية التي تواجه نوعين متطرفين، أحدهما لا يأبه بها، والآخر يتوارى عنها خوفاً من قسوتها والمأساة التي تحرضها في داخله. 

ولكن هل يمكننا أن نحب إدلب أكثر، نحن الذين نعمل معها ومن أجلها كل يوم؟ بخلفياتنا الثقافية والدينية والطائفية المختلفة؟ وهل يمكننا أن نوصل صوت هؤلاء الذين يشبهوننا في إدلب إلى العالم كي يحبها أكثر ويكون لو لمرة واحدة حنوناً معها؟

٢٤ ساعة أخيرة في معرة النعمان
تتحدث  ربيعة عن آخر يوم لها في #معرة_النعمان منذ أسبوعين، وكانت قد حاولت البقاء هناك أطول مدة ممكنة في محاولات جاهدة لإنكار الموت الذي يستهدف السكان في إدلب. لكن هذه المرة كانت مختلفة عن كل ما سبق. تقول بغصة ” اليوم الأخير بالمعرة كان يوم كتير صعب، ما في كلمة بتوصف يلي صار”.

ظنت ربيعة أن الفجر لن يطلع على المدينة في ذلك اليوم فالقصف بدا أزلياً، والنهار التالي أصبح أبعد مما يمكن انتظاره. فيحمل شروق الشمس قرارها الحاسم بلزوم مغادرة معرة النعمان، والنزوح منها نحو منطقة أقل #خطراً، ترددت كثيراً، فلم تكن قد جهزت أحمالاً معينة ليوم الرحيل.

تقول ربيعة: “عندما يسألونني عنها أقول المعرة تحترق، أرى أشعة النار وأذكر الجملة الشهيرة: : الأسد أو نحرق البلد، ويحترق قلبي مع مدينتي أيضاً”. لملمت ربيعة أوراقها الثبوتية والوثائق الضرورية في حقيبة يدها، وأخذ أطفالها يضعون بعض ألعابهم في حقائبهم الصغيرة. وتحمل طفلتها الصغيرة كراس الروضة الذي عملت عليه بجد طوال العام والذي حمل كل إنجازاتها، ودليلها الوحيد على أنها قد كبرت وتعلمت الكثير، تعلمت أيضاً أن تحمل ما يلزم عند النزوح، فبعد اضطرارهم لترك المنزل عدة مرات بسبب القصف، تتأفف الصغيرة: “كل مرة نزوح..وبعدين؟”.

يعلو صوت صراخ من خارج المنزل: “اشتغلت الراجمة”. يرتعد قلب ربيعة وتهرع للهرب بعيداً جداً قبل استكمال كل الحقائب.. تترك ربيعة قلبها مع أغراضها. وتحمل الذكرى ثقيلة في قلبها اليوم. فالمنزل قد تم نهبه بعد خروجهم منه.. تلك المنازل التي لا تقصف تتم سرقتها. وبيع أغراضها بأثمان زهيدة طلباً للعيش. فلا مكان للعدالة في أرض المعركة. ” تبدو الرحلة هذه المرة رحلة نحو المجهول، تركتُ قلبي في المعرة، فرحلتي لا تبدو رحلة قصيرة.  تتضارب الأفكار في ذهني. أين سينتهي بي المطاف مع أولادي؟ هل سنجد منزلاً يأوينا؟”

تستكمل ربيعة وصفها للمدينة في لحظة الوداع. “بدت مدينة أشباح خالية من سكانها، تضج فيها أصوات الصواريخ والضربات المتوحشة، لا شيء يقطنها سوى الموت الذي يرفع صوته فوق كل صوت. ” وتسأل نفسها إن كان بإمكانها أن تبقى لو بقي الجميع؟ لكن من بقي كان ميتاً. أصبحت مدينة خاوية. 

لا يمكن أن تشبه إدلب اليوم مكاناً آخر، لكل مدينة طعم ورائحة وطريقة حياة. أما إدلب فلها طعم الموت ورائحة الخواء المفزعة، لا تشبه مكاناً يمكن أن يسكنه بشر.

تقول ربيعة عن من تعرفهن من #النساء “نحن المناضلات الحقيقيات في إدلب، ليس وحدنا، عائلاتنا وأطفالنا قبل أي أحد. نعيش تهديداً لحظياً بالموت و #التهجير منذ سنوات، ونصمد طلباً للحياة التي نستحقها. نستحق اليوم أكثر من أي وقت الحياة العادلة والكريمة. لقد أنهكنا التعب نحن نريد #السلام.” 

ماتزال ربيعة، بعد مرور أسبوعين على خروجها من معرة النعمان، تبحث مع عائلتها عن منزل يأويهم.

من بقي في سراقب؟ 
تتحدث سمر وهي المسؤولة عن عائلتين، فمن خلال عملها كمدربة للصوف والحياكة كانت معيلة أساسية في منزلها. “سراقب فتحت بيوتها للنازحات والنازحين منذ عدة سنوات، ولكنها اليوم تواجه حملة عنيفة من قصف النظامين الروسي والسوري. تهجّر معظم سكانها، لا يمكن أن يعيش الإنسان تحت القصف.. “يا ماما خبيني دخيلك تحت الحرام”، يصرخ ابن أخي ذو التسعة أعوام  ونتماسك جميعاً كي لا يزداد خوفه، ويرتجف تحت الغطاء. وأفكر بالضباع التي بدأت تقطن المنازل المهجورة اليوم. وأتذكر قصص جدتي عن الحيوانات المفترسة التي تدخل البيوت المهجورة ليلاً.

تؤكد سمر أن بقاءهم في سراقب ليس شجاعة أو عملاً بطولياً، ولكنه يستحيل على الجميع أن يغادروا ضمن غلاء إيجارات البيوت في المناطق المجاورة. وهي تعي جيداً أن البقاء يهدد حياتهم اليوم، لكن العراء ليس مأوى ولن يكون. ويبدو الحال أصعب من أن يُصدق فالخيارات تنحصر بمحاولة النجاة في مدينة تتعرض للقصف، وبين خيام تغرق تحت أمطار الشتاء، أو بين الحقول والبساتين المفتوحة للسماء.

كم تشبهنا نساء إدلب؟
لا تسألنا نساء إدلب هذا السؤال، فهن لا تملكن متسعاً من الوقت للتفكير بمن خرجن وتهجرن قبلهن، لكنهن يشعرن بالانتماء لمن يتضامن معهن ويشاركهن المأساة وكذلك الأمل.

تؤكدن يومياً على رغبتهن بالاستمرار وعلى الرغبة بالوجود، من خلال الصحافة والصورة والصوت والرسائل . ونسأل نحن أنفسنا كنساء تعشن حياة آمنة خارج سورية عن مدى تشابهنا بهن، وعن سبب إهمال العالم لأصواتهن وانتباهنا لها؟

ويبدو الأمر كأنه كرة ثلج تبدأ صغيرة من خلال رسالة أو ورقة أو صورة رقيقة. وتنتهي بارتباط عميق بين حياتنا وحياتهن، فما يحملنه من أعباء يشبه أحمالنا وما يقلقهن يثير خوفنا. ولاداتهن في هذه الظروف، انعدام الخدمات الطبية واقتصارها على إسعاف الحالات الحرجة المتأثرة بجراح المعركة. أمراضهن والتوتر الذي يرافق انعدام الاستقرار، والتغيرات الهرمونية التي تقلب أجسادهن. حكاياتهن قبل النوم، وعملهن الدؤوب لإعالة أسرهن، وآثارهن الصغيرة التي يتركونها في كل منزل وفي كل شارع. ما يشبهنا أكثر من أي شيء هو رغبتهن بالحياة.

قصة قصيرة
تصطحب ربيعة أطفالها في غفلة من القصف والمعركة، وتخاطر بلحظات الهدوء القليلة لتصحبهم  في رحلة سريعة نحو البرية القريبة. يختلس الجميع لحظات صغيرة من الحياة التي لا تخضع لقانون الحرب العاتية. ويصادفون سلحفاة كبيرة تسير على العشب. فيحملونها معهم لحمايتها. 


وتستمر الحياة هكذا. من إدلب وإليها.
(جميع النساء اللاتي تمت مقابلتهن ضمن هذا المقال من فريق منظمة النساء الآن من أجل التنمية داخل سورية) 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة