ها قد تشكلت الحكومة اللبنانية أخيراً في 21 كانون الثاني 2020 برئاسة حسان دياب الآتي للمرة الأولى إلى نادي رؤساء الحكومات اللبنانية، بعد تجربة أكاديمية طويلة وتجربة وزارية يتيمة كوزير التربية والتعليم العالي سنة 2011. خرجت الحكومة إلى النور بعد شد وجذب كثيرين ومخاض استمر أطول من المتوقع بين تكليف وتشكيل، حتى يأس بعضهم من تشكيل هذه الحكومة. ومر هذا المسار بمحطات أساسية لا بد من التوقف عنها لتوضيح ما أخفقت فيه الطبقة السياسية في لبنان رغم الوعود المبذولة.

بعد استقالة رئيس الحكومة اللبنانية السابق سعد الحريري في 29 تشرين الأول 2019 إثر اندلاع الثورة اللبنانية تجنب الرئيس اللبناني ميشيل عون الدعوة إلى استشارات نيابية ملزمة في خرق للدستور اللبناني بتفسيره المعتاد، وفي تجاوز أيضاً لصلاحيات رئيس الحكومة، المنصب المحسوب على المسلمين السنة، من قبل رئاسة الجمهورية المارونية، إذ أخر ميشيل عون الدعوة إلى الاستشارات النيابية بدعوى الاتفاق على اسم الرئيس المكلف وتشكيلة الحكومة قبل الاستشارات وقبل التكليف، بحجة تجنب تأخر التكليف كما جرت العادة مرات عديدة في الماضي حين كان يكلف أحدهم بتشكيل الحكومة ويتأخر الأمر شهوراً طويلة حتى تبصر النور تنال الثقة.

لكن في واقع الحال استغرق التشكيل 33 يوماً من بعد تكليف حسان دياب في 19 كانون الأول الماضي، يضاف إليها التأخر المقصود في الاستشارات النيابية ليصير المجموع قرابة 80 يوماً، ولتسقط معها مقولة “التشكيل قبل التكليف” بحجة كسب الوقت.

أمر ثان كان محط استغراب، أسقط اتهام المحسوبين على 8 آذار من حزب الله وحركة أمل والتيار الوطني الحر والمردة وأرسلان والحزب السوري القومي الاجتماعي وبعض الحلفاء، هؤلاء المحسوبين على 14 آذار كتيار المستقبل والقوات اللبنانية والحزب التقدمي الاشتراكي بأنهم سبب التعطيل والعرقلة في الحياة السياسية خلال التجارب السابقة، ضمن ما سمي بالديموقرطية التوافقية، فعلى الرغم من أن تشكيل الحكومة كان من دون أولئك المحسوبين على 14 آذار، ومحصوراً فقط في 8 آذار والحلفاء، فقد استغرق أكثر من اللازم، وكشف التباينات بين أعضاء الفرق الواحد، فقد عاد وزير الخارجية السابق جبران باسيل الذي يرأس التيار الوطني الحر إلى عادته القديمة المتمثلة في محاولات الاستئثار بأكبر قدر من الوزراء في الحكومة، رغم عدوله تحت ضغط الشارع ورفع شعار حكومة التكنوقراط عن المشاركة شخصياً في الوزارة، لكنه أصر على وضع فيتو على بعض الأسماء التي تقدم بها حسان دياب كاسم داميانوس قطار كوزير للخارجية، وهو وزير سابق يتمتع بسمعة حسنة يخشى منه باسيل أن تتيح حقيبة الخارجية له مجالاً لتعزيز علاقاته الدولية وتمهد طريقه إلى رئاسة الجمهورية التي يضع جبران باسيل كل مقدراته للوصول إليها من بعد عمه الرئيس الحالي ميشيل عون.

من جهة أخرى لم يكن أداء حركة أمل أفضل من أداء التيار الوطني الحر إذ تمسك رئيس الحركة نبيه بري بوزارة المالية، وسمى لها أحد مستشاريه بدل الوزير التقليدي من حركة أمل علي حسن خليل، وحتى طلال أرسلان تمسك بالتمثيل الدرزي من خلاله وطالب بأكثر من وزير ولو أفضى ذلك إلى تأخير ولادة الحكومة في بلد يخوض خضم أزمة مالية مصيرية ويقبل على انهيار على عدة أصعدة.

بدوره خاض الحزب السوري القومي الاجتماعي معركته في سبيل توزير من يريد، ولكنه ما لبث أن انسحب نظرياً من هذه التشكيلة ولو بقي ضمنها على نحو غير معلن.

في محصلة كل ذلك تبين أن تشكيل حكومة من لون سياسي واحد، متحالف، لم يكن بالسهولة المتوقعة ولو أدى بشكل أو بآخر إلى نتيجة واحدة إيجابية على الأٌقل تمثلت في وجود موالاة ومعارضة على نحو واضح ضمن الطبقة السياسية اللبنانية بدل “بدعة” الديمقراطية التوافقية التي اعتمدت في السابق بحجة تمثيل الجميع، والتي أعاقت آلية اتخاذ القرارات وحرمت العملية السياسية من فوائد وضرورة وجود معارضة تتابع عمل السلطة وتحاول محاسبتها والإضاءة على أخطائها.

أمر ثالث كشفه إعلان تشكيل الحكومة وهو حقيقة أن الحكومة ليست حكومة تكنوقراط كما طالب الشارع الثائر وكما أدعى بعض المطلعين على مجريات التشكيل قبلاً أن الحكومة حكومة اختصاصيين لا سياسيين، فقد بين إعلان أسماء الوزراء وسيرهم الذاتية أن الحقيقة بعيدة كل البعد عن هذه الإدعاءات، فوزير الشؤون الاجتماعية والسياحة رمزي مشرفية يمتهن جراحة العظام، ووزيرة الشباب والرياضة فارتينيه أوهانيان مختصة في العلوم الاجتماعية، ووزيرة العمل لميا طنوس يمين عملت في الهندسة، ووزيرة الإعلام منال عبد الصمد تخصصت في القانون، ووزير البيئة والتنمية الإدارية دميانوس قطار متخصص في الاقتصاد، بينما تخصصت وزيرة الدفاع في الصيدلة.

وفي حين أدعى رئيس الحكومة في مؤتمره الصحفي رداً على سؤال صحفي أن الحراك الشعبي ممثل في هذه الحكومة، إلا أنه تجنب تسمية الوزراء الممثلين تاركاً الأمر لاجتماع لاحق له بالصحافة لشرح الأمر، في حين قالت مصادر من الحراك بعد الإطلاع على أسماء وزراء الحكومة أن لا أحداً فيها يمثل الحراك لا من قريب ولا من بعيد.

وبعيداً عن ادعاء التكنوقراط المفند سلباً في سير العديد من الوزراء الجدد، يبدو أن ادعاء الاستقلالية -وهو مطلب الشارع- قد سقط بدوره بحسب ما عرف عن هؤلاء الوزراء والجهات الحزبية التي وقفت خلف تسميتهم للوزارة، فوزيرة العدل ماري كلود نجم سميت من قبل التيار الوطني الحر، ووزير الأشغال العامة والنقل ميشال إبراهيم نجار سمي من قبل تيار المردة (فرنجية)، ووزير الشؤون الاجتماعية والسياحة رمزي مشرفية سمي من قبل الحزب الديمقراطي اللبناني (أرسلان)، ووزير المال غزي وزني جاء من طرف حركة أمل، ووزير الخارجية سمي هو أيضاً بدوره من قبل التيار الوطني الحر خلفاً لرئيسه جبران باسيل الذي كان يحمل حقيبة الخارجية في الحكومة الأخيرة، ووزيرة العمل كانت أيضاً من حصة تيار المردة، ووزير الطاقة محسوب على التيار الوطني الحر وعمل مستشاراً لوزير الطاقة السابق، العوني بدوره، أما حزب الطاشناق الأرمني فقد سمى وزير الشباب والرياضة، ووزير الصحة ووزير الصناعة أتيا بدعم من حزب الله، ووزير الاقتصاد كان هو أيضاً من حصة التيار الوطني الحر، ووزير الزراعة والثقافة عباس مرتضى فهو معروف بانتمائه إلى حركة أمل.

هي إذن بالمحصلة حكومة سياسية لا اختصاصية في العديد من وزرائها، ولا تلحظ تمثيل الحراك الشعبي رغم كل الإدعاءات المعاكسة، بل هي سارت على خطى وزارات سابقة في تكريس وزاراتٍ بعينها لأحزاب أصرت على البقاء في نفس الوزارات، ولعل أبرزها المالية لحركة أمل والطاقة والخارجية للتيار الوطني الحر.

رغم أن “المكتوب ظاهر من عنوانه” إلا أن التعويل على الأيام المقبلة للحكم على أداء هذه الوزارة وقدرتها على مواجهة التحديات الخطيرة أمام لبنان على الصعد المالية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.