علي وجيـه

لعلّ واحدةً من أبرز لحظات احتجاجات تشرين هو ظهور شاب متظاهر ليقول جملةً مُختزَلةً بليغةً للغاية: “أقولُ له: أريد وطناً، يقول لي: مُنحة!”، في إشارة إلى محاولة تهدئة حكومة عبد المهدي للمتظاهرين عبر منحةٍ ماليّة للعاطلين عن العمل، تبلغ نحو 140$ للفرد الواحد.

وبقدر ما ترمزُ هذه العبارة إلى غضب الشاب، وسعة حلمه، الذي تحوّل كثيراً في الأشهر التالية، إلاّ أنه يرمزُ إلى وجود قطيعةٍ بالغة التأثير، بين الطبقة السياسية العراقيّة، وبين القاعدة الجماهيرية: الشعب أو المجتمع.

تمرّ الطبقة السياسية العراقية بثلاثة اغترابات هائلة، تشكّل جدراناً عازلة، وهو السبب الأساسيّ باستفحال الأزمة السياسية التي يمرّ بها #العراق من جهة، وما يؤدي إلى استمرار سقوط الدماء، والانسداد السياسي، والمخاطرة بانهيار كل شيء.

لعلّ العمود الفقري للطبقة السياسية يمثّله ويشكّله جيل المعارضة لنظام #صدّام_حسين الديكتاتوري، وهم بأغلبهم سياسيون من طبقاتٍ برجوازيّة عراقية، انتقلت خارج العراق منذ نهاية السبعينيات وصولاً للتسعينيات، ولم يعودوا إلى العراق إلاّ بعد نيسان 2003، الأمر الذي خلق قطيعةً واضحةً مع الشارع، وعدم وجود فكرة واضحة في أذهانهم تجاه العراق.

الاغتراب الأول هو اغتراب الزمن، القطيعة مع العراق زمنياً، دون فهم التأثيرات الاجتماعية للأحداث السياسية بشكلٍ واضح، خصوصاً مع المنعطفات الخطيرة التي مرّت بها البلاد، مثل الحرب العراقية – الإيرانية (1980-1988)، واحتلال #الكويت، وقمع #الانتفاضة_الشعبانية، والعقوبات الاقتصادية المفروضة على العراق.

لا تعرف هذه الطبقة السياسية العراق إلاّ مُفلتراً من خلال الصحف والتلفزيونات، ليس لدى أغلبهم فكرة عن الصراخ والعويل والجوع الذي حدث، يرون الأمر متصلاً بأسعار النفط، والضحايا أرقام تساعدهم بإقناع بوش بغزو العراق.

العراق فكرة في ذهن أغلب هذه الطبقة السياسية التي أرست قواعد العمل السياسي في عراق ما بعد 2003، ولهذا نرى بشكلٍ طبيعيّ ركونهم إلى التاريخ مع بداية أيّ تصريح صحفيّ، ولعلّنا نتذكر كلمة عبد المهدي الأولى التي خاطب بها المتظاهرين، التي أشار فيها بشكلٍ واضح إلى مشاركته في تظاهرات في الخمسينيات نصرةً للشعب المصري.

الجلوس داخل التاريخ، والانفصال، أو الانفصام عن اللحظة، هو أهم ما يمثّل جيل سياسيّي ما بعد 2003، وهم بالأغلب سياسيون يتجاوزون عمر الـ70، حتى بدأت الشيخوخة والموت تفتك بهذا الجيل المؤسّس، ومَن “ينتظر” يُرى على وجهه ملامح الهرم، والكبر.

الانفصال الثاني هو الانفصال الجغرافيّ، الذي جعل هذه الطبقة السياسية العائدة من المنفى تسكنُ في منفىً آخر، وهو #المنطقة_الخضراء، وحتى مَن يسكن خارجها فهو له “خضراؤه” الخاصة التي يصنعها الكونكريت، والحرس، خارج الخضراء بلاد مختلفة، من الأنظمة المرورية لأسعار البضائع للانحدار الأمني، الخضراء مختلفة تماماً عن أيّ منطقة تبعد عنها 5 دقائق، وحتى حين اتخذ عبد المهدي قرار فتح الخضراء فإنّها لم تكن سوى عملية فتحٍ للمنافذ، مع استمرار رمزيّتها، واختلافها بشكلٍ كبير.

يتكلم السياسي العراقي من الجيل المؤسس لغةً لا تُشبه لغة الشارع، لغةً نظرية، ويتعامل مع العراق على أنه أرقام، وأغلب هؤلاء السياسيين ليس لديه فكرة عن القدرة الشرائية لـ10 آلاف دينار عراقيّ، ولا يعلمُ بالضبط ما هي آخر الكنايات، أو الأغاني المشهورة، أو الانعطافات السلوكية الجماعية التي تؤثر على جيل الشباب، ولهذا أُصيب بعدم الفهم، والجمود، مع خروج جيل شبابيّ يريد كلّ شيء، ولا يريد شيئاً محدداً: فحين يقول المتظاهر “أريد وطناً”، هو يصيب أكبر السياسيين بالحيرة، وليس السياسي المغترب!

غربة التاريخ، والجغرافيا، واللغة المشتركة، جعلت هذه الطبقة السياسية بمثابة الجدّ الأصم الذي ليس لديه فكرة عن الأحفاد، خصوصاً وأن عنصر الربط ما بين هذه الطبقة السياسية وبين المواطنين هي مجموعة المستشارين، الذين لا يقدّمون سوى الجانب الإيجابي، والموافقة عمّا يريده المسؤول.

هذا لا يعني بالتأكيد أنّ كل سياسيّي العراق القادمين من خارجه بعد 2003 شياطين، ولا العكس، لكن هذا الانفصال الحاد، خلق اندماجاً حاداً لدى الجيل الصاعد من سياسيي الداخل، الذي صار يؤشر على ظاهرة “شعبوية” أكثر من اللازم، وأن يكون تابعاً تاماً للمواطن، حتى في مطالبه غير المنطقية، مثل الدور الثالث للامتحانات، أو المطالبة بالتعيينات الحكومية الإضافية.

وما بين طبقة منفصلة، وطبقة شعبوية، يسحبان معهما كلّ سياسيّ يحاول العمل بمنطق، تستمر الدماء بالسقوط في ساحات الاحتجاج، دون أن يعلم عبد المهدي بالضبط ماذا تعني جملة “نريد وطناً”.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.