منذ الأيام الأولى للثورة اللبنانية في 17 تشرين الأول 2019، وجزء من الاستهداف احتجاجاً وهتافاً وانتقاداً مصوب ضد مصرف لبنان وحاكمه #رياض_سلامة، الأمر الذي فسر في حينه -على صوابيته- أنه توجه خاص بحزب الله على نحو خاص، بسبب انصياع سلامة للأوامر الأميركية وتقيده بالعقوبات المفروضة على حزب الله وإيران، وهو تصرف أضر بحزب الله وبحركة أمواله واعتبر تصرفاً موجهاً ضد #حزب_الله والمقاومة، رغم توضيح المختصين أن لا حول ولا قوة لحاكم مصرف لبنان في قضايا مماثلة، فهو مجبر على التقيد بالأوامر الأمريكية ولا يملك خياراً أمامها.

ولد رياض سلامة سنة 1950 ودرس في الجامعة الأمريكية، هاجر وعمل الأسواق المالية، عبر شركة ميريل لانش الأمريكية، واكتسب سمعة ممتاز لدى رجال الأعمال والمستثمرين العرب.خلال فترة عمله هذه تعرف رياض سلامة على رفيق الحريري، أولاً عبر توظيفه جزء من أموال الحريري. ثم وبشكل أقوى حين سماه رئيس الحكومة اللبنانية آنذاك رفيق الحريري نفسه حاكمًا للمصرف اللبناني المركزي، وما زال سلامة في هذا المنصب منذ ذلك الحين حتى اليوم، أي 5 ولايات تتألف كل واحدة منها من 6 سنوات.

بعد خضات طالت سعر صرف #الليرة اللبنانية، أغلبها خلال الحرب الأهلية اللبنانية وخاصة بعد سنة 1982، وواحدة أخرى عقب نهاية الحرب في العام 1992 بلغ سعر صرف الليرة اللبنانية 2880 ليرة مقابل الدولار الواحد، ثم جاء رياضة سلامة ليتسلم حاكمية المصرف مع سعر صرف 1950 ليرة مقابل الدولار، وعمل على تثبيت سعر الصرف على ما يقارب 1500 ليرة لبنانية للدولار، على اعتبار أن تثبيت سعر الصرف برأي سلامة يجذب الاستثمار ويحقق الاستقرار الاقتصادي والمالي وازدهارهما.

منذ هذا العهد تقريباً، أي عهد الحريري في رئاسة الوزراة، وسلامة في حاكمية مصرف لبنان بدأ “التأسيس” للدين العام اللبناني الحالي والذي تقول أرقام غير رسمية أنه بات يقارب حد 100 مليار دولار، وهو تأسيس بني على استدانة الدولة من المصارف اللبنانية والاكتتاب على سندات الخزينة بمعدلات فائدة مرتفعة، لتمويل العجز المتأتي من سوء الإدارة والفساد.

هنا قد يصح القول أن تثبيت سعر صرف الليرة كان له انعكاسات ايجابية على #الاقتصاد اللبناني، منها جذب بعض المستثمرين على الأقل، إذ أن سعر الصرف المتأرجح سيزيد من مخاطر الاستثمار واحتمالات الخسارة وهو ما ينفر المستثمرين بشدة. ولكن، في حين كان مصرف لبنان والمصارف اللبنانية تستثمر جزءً من ودائع المواطنين فيها في القروض الشخصية مع ضمانات متقدمة كرهن الأملاك، كانت من جهة أخرى تقدم الأموال للدولة بحكوماتها المتعاقبة كديون دون أي ضمانات حقيقية، مع علم الجميع أن أغلب هذه الديون، إن لم تكن جميعها، هي ديون لسد العجز هنا وهناك، لا للاستثمار في خلق فرص العمل وتحسين البنى التحتية مثلاً.

على سبيل المثال، يبلغ عجز كهرباء لبنان ما يفوق مليارين ونص المليار دولار سنوياً، تسد عملياً عن طريق استدانة الحكومات من المصارف عن طريق مصرف لبنان وسندات خزينته، وهذه الأموال تذهب إلى غير رجعة، فهي لسد العجز، ولن تأتي بمردود مالي كما تفعل الاستثمارات والإنفاق الحكومي الرشيد.

في نهاية المطاف، هذه الأموال التي تستدينها الدولة من المصارف هي أموال المودعين، وبعبارة أخرى: أخذت المصارف أموال المودعين لديها، وقدمتها للدولة عن طريق مصرف لبنان لقاء فوائد مرتفعة نسبياً، ابتلع العجز هذه الأموال التي بقيت في حسابات المودعين كأرقام لا يمكن تحويلها عملياً إلى أموال سائلة مفيدة، وهذا ما يفسر جزء من الأزمة الحالية وصعوبة تحصيل المودعين أموالهم من المصارف أو تحويلها إلى خارج لبنان.

تقع مسؤولية كبيرة هنا على رياض سلامة الذي صور كمنقذ مالي للبنان بسبب تثبيته سعر صرف الليرة على مدى سنوات طويلة، ولكنه استمر في إقراض الدولة رغم علمه بالطريقة التي ستتبخر عبرها هذه الأموال إلى غير رجعة، ما جعل النظام المالي يتآكل من الداخل ويمسي شديد الهشاشة وصولاً إلى حالته اليوم حيث “طارت” أموال المودعين، ولا يعرف كم سيبلغ سعر صرف الليرة مقابل الدولار الذي كسر السعر الرسمي المثبت منذ سنوات على سعر 1500 وتجاوز 2000 لثيرة للدولار الواحد.

قد يبدو هذا الوضع وسلوك المصارف وسلامة شديدي الغرابة لمن لا يعرف تفاصيل الواقع اللبناني، فحاكم مصرف لبنان يعين في منصبه ويجدد له من خلال مجلس الوزراء، أي من خلال السياسيين، وهم الأشخاص أنفسهم الذين يملكون المصارف الكبرى ويتحكموت فيها، أي أن السياسيين الذي عينوا سلامة، يقرضون الدولة التي يقودونها الأموال عبر المصارف التي يمتلكونها تحت إشراف مصرف لبنان، في تضارب مصالح معقد وغير قابل للحياة على المدى الطويل.

حتى كل هذا الفساد لم يكن كافياً، ففوائد سندات الخزينة لم تشبع جشع السياسيين أو لم تطول جزء منها صار أساسياً في الحكم كقادة التيار الوطني الحر برئاسة جبران باسيل صهر رئيس الجمهورية ميشيل عون، فجاء هنا اختراع رياض سلامة للواقع اللبناني الفاسد تحت مسمى “الهندسة المالية”.

“سيدروس بنك”، مصرف جديد ناشئ، لا يلحظ له المتجول في وشارع بيروت فروع كثيرة، وكثيرون من سكان العاصمة لم يسمعوه باسمه حتى، فالمصرف أسس نظرياً سنة 2011 على يد شخصين واحد منهما هو رائد خوري الذي عين لاحقاً وزيراً للاقتصاد والتجارة من حصة التيار الوطني الحر، أما الثاني فادي العسلي فهو مستشار رئيس الجمهورية، بينما تشغل إحدى بنات ميشيل عون منصباً في سيدروس بنك، ولاحقاً انضم إلى مساهمي البنك الناشئ أحد مرشحي التيار الوطني الحر للنيابة، بينما تولى الأمول القانونية للبنك محام مشهور هو صهر سابق لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة.

في سنة 2017 ومع مقاربة ولاية رياض سلامة حاكماً لمصرف لبنان على النتهاء، أشاعت أوساط رئيس الجمهورية ميشال عون معارضته للتجديد لسلامة، وفي الوقت عينه تقريباً طلب سيدروس بنك من حاكم مصرف لبنان دعمه من خلال هندسات مالية بعد الخسارات التي وقع بها، وهو طلب مخالف للقانون إذ ليس من شأن مصرف لبنان تأمين الأموال المجانية للمصارف، بل دعمها حين الحاجة مقابل ضمانات، أي إقراضها عملياً.

تحت ضغوط رفض ميشيل عون بقاء سلامة في مصرف لبنان على ما يبدو، لجئ سلامة إلى ست عمليات “هندسة”، 3 منها قبل التجديد له لخامس مرة، و3 أخر بعد التجديد له حاكماً للمصرف، وقدمت هذه الهندسات مجتمعة حوالى 38 مليون دولار لسيدروس بنك.

تمثلت هذه الهندسات ببيع مصرف لبنان سندات خزينة لسيدروس بنك، ثم شراءها منه في اليوم عينه لقاء مبلغ أكبر، بأكثر من 150% من سعرها، ما راكم عشرات ملايين الدولارات في جيوب المساهمين الأساسيين في البنك والذين ينتمون إلى التيار الوطني الحر أو يشكلون واجهات مالية لقادته. هندسات مالية أخرى لاحقة أمنت 30 مليون دولار أخرى لمن يقف من خلف سيدروس بنك.

بهذا الطريق، وبأموال المودعين والأموال العامة، اشترى رياض سلامة تجديد ولايته، ودخل “العونيون” نادي المستفيدين من هندسات رياضة سلامة على قاعدة “لقد فعل ذلك مع غيرنا (بنك عودة مثلاً) فلم لا يفعله معنا أيضاً؟! واليوم يأتي هؤلاء السياسيون أنفسهم ليحملوا الثورة اللبنانية مسؤولية انهيار الوضع المالي للبنان!

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.