محمد سامي الكيال


يبدو اقتباس نص بتعقيد وعمق قصة “الحكم” ل#فرانز_كافكا تحدياً شديد الصعوبة، خاصة إذا كان الهدف تحليل العلاقات الاجتماعية والأطر الأخلاقية في سياق #الثورة واللجوء السوري، ومن ثم إعادة بنائها ضمن منظور فني، بكل ما يرتبط بها من مفاهيم: الذاكرة، التحرر، السلطة، تعريف الذات الفردية والجمعية، وعلاقتها بالآخر المفترض. هذا ما حاول الكاتب الفلسطيني السوري #علاء_الدين_عالم التصدي له في نصه المسرحي “غرق”، الذي عُرض على شكل قراءة مسرحية في العاصمة الألمانية #برلين، وهو واحد من ستة نصوص لكتّاب سوريين وعرب، كُتبت بعد الربيع العربي، يتم عرضها تباعاً باللغتين العربية والألمانية، ضمن مشروع “قاف” للقراءات المسرحية.

“القراءة” مفهوم مسرحي يقوم على إلقاء المؤدين للنص بدلاً من تمثيله، بالاعتماد على التعبير الصوتي أساساً، وبحد أدنى من العناصر المسرحية الأخرى، مثل الأزياء والحركة والإضاءة والمؤثرات الخاصة. لا يفوت مشاهد “غرق” الكثير بسبب اتباع هذا المفهوم في تقديم النص، فالحوار بين الابن والأب، الذي يشكّل أغلبية العرض، لا يتطلب تنوعاً كبيراً في الأساليب الأدائية. وقد  ساهمت حيوية لغة الحياة اليومية، التي كُتب بها الحوار، بإكساب العرض في فصله العربي طابعاً لا يخلو من الطرافة والتشويق، في حين نجح أداء الممثل الألماني ماركوس هيرنغ بإعطاء سمة سوداوية، قريبة لأجواء عالم كافكا الأدبي، للفصل الختامي الذي قُدم باللغة الألمانية. 

علي، الابن المتمسك بحلم التغيير، وبالبقاء في #سوريا رغم ظروفه الصعبة، يضطر للحاق بوالده الذي لجأ إلى أوروبا، لتنقلب هنالك علاقات القوة بين الأب والابن، فبعد أن بدا الوالد ضعيفاً ومعزولاً في الوطن، ومعتمداً بشكل كبير على رعاية ابنه، يتضخم من جديد في المنفى، ليحطم الابن معنوياً، عن طريق مبارزة كلامية تتصاعد بشكل مدهش. “ما زال أبي عملاقاً” كما يقول بطل قصة “الحكم”، التي اقتُبس منها العرض. 

المفارقة التي استطاع العالم تقديمها ببراعة، بما يتجاوز نص #كافكا، أن السلطة الأبوية أعادت تأسيس نفسها بشكل أكثر متانة في المنفى، رغم أن سياقها المفترض يجب أن يكون الوطن، حيث الذاكرة والتقليد واللغة. بالمقابل يبدو الابن عالقاً في حاضره، فاقداً لأي أفق مستقبلي، ولا خيار له إلا التمسك بالأب/الماضي. إلا أن هذا الماضي يكسره تماماً، يسخر من طموحاته وأفكاره وأحلامه بالتغيير، فلا يبقى له إلا الغرق. وإذا كان الأب في القصة الأصلية حَكَم على ابنه بالموت غرقاً، فإن غرق الابن في نص العالم يبدو تكراراً هزلياً لمصير بطل كافكا: يدفن علي رأسه في المرحاض، ويُغرقه بالمياه القذرة. إنه تصوير قاسٍ لمصير جيل حمل مشروع التغيير.

إحدى الأفكار الأساسية في نص كافكا هي “الخروج”، يحاول بطل قصة “الحكم” بناء ذاته وهويته بشكل مستقل عن أبيه، إلا أن الأب، الذي يبدو عاجزاً وخرفاً في البداية، يقطع طريق الخروج على ابنه، يحاكمه أخلاقياً، ويسلب منه، بشكل رمزي، كل ما ظن أنه خصوصياته الحياتية: الصديق والحبيبة والعمل. يبدو الخروج عندها مستحيلاً، فينفذ الابن طوعاً حكم أبيه، وينتحر غرقاً. في نص العالم يكتسب “الخروج” معنى مزدوجاً: الثورة كانت محاولة “خروج” لجيل كامل، يمثّله علي بطل النص، من ظرف تاريخي جامد ومنحط، إلا أن هذا الخروج فشل بشكل مثير للشفقة، فلم يبق إلا الخروج المادي المباشر، أي الهرب من البلاد إلى المنفى. وهي خطوة قام بها الأب أولاً للمفارقة. وعندما التحق به الابن، اكتشف أن خروجه لم يوصله إلا إلى نقطة البداية. يعود الأب عملاقاً ومسيطراً، ويجبر ابنه على الغرق بشكل رمزي، دون الحاجة حتى إلى حكم قاسٍ على طريقة كافكا. 

الجنة الأوربية تبدو هنا مناسبة أكثر للأب، رغم أفكاره المحافظة. انبهاره بالقانون والحضارة في بلدان المنفى لا ينمّ عن فهم الأسس الفكرية والسياسية للديمقراطيات الغربية، بقدر ما هو خضوع ذليل لبيروقراطية دول اللجوء. أما سخريته من السلطة في سوريا فلم تدفعه إلى اتخاذ موقف ثوري، بل ترافقت مع تهكم جارح من رغبه الابن في التغيير السياسي والاجتماعي. وبفضل السلطة الديكتاتورية في الوطن والبيروقراطية الخانقة في أوروبا، كانت نتيجة خروج-لجوء الوالد استعادة سيطرته على ابنه، في حين أدرك الابن أن الخروج-التغيير، الذي حلم به طويلاً، ليس سوى عودة مؤلمة إلى الأب. 

يُحسب لعلاء الدين العالم، وشركائه في العمل، أنهم  لم يتوقفوا عند الحدود التي تفرضها المشاريع الثقافية في دول اللجوء، فلم يكرروا مفاهيم مثل “التبادل الثقافي”، “تعريف الغرب بالثقافة العربية”، “نقل المأساة السورية للعالم”، الخ. وهي مفاهيم مرتبطة بشروط الاستهلاك الثقافي الغربي، بما يترافق به من اهتمامات أيديولوجية وسياسية، ومقولات مكررة ومعلّبة، تأتي عادةً على حساب القيمة الفنية والفكرية للعمل الفني. نص “غرق” ليس مصمماً لتلبية برامج “التبادل” في المؤسسات الثقافية الأوربية، وقيمته تأتي من محاولته صياغة رؤية فنية، لا تفتقر للجدّة والفرادة، للشرط التاريخي والاجتماعي السوري والعربي بعد الثورات، ما يجعله قادراً على تقديم منظور جديد للمشاهد أياً كانت جنسيته وثقافته. 

الكاتب: علاء الدين العالم

النقد الأساسي الذي يمكن توجيهه للعمل هو عدم تمكّنه من إظهار التناقضات في مشروع التغيير الذي يمثّله الابن، فبدا مجرد ضحية سلبية، ذات موقف أخلاقي نقي وبسيط، في حين ظهرت  شخصية الأب أكثر تعقيداً وثراء. وربما يعكس هذا ضعفاً عاماً في القدرة النقدية للإنتاج الفكري والفني العربي، ما يجعله عاجزاً عن تفكيك أطره الذاتية، وتجاوز مقولاته الراسخة نحو إنتاج أفكار ومعانٍ جديدة. 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.