موجز لمقابلة قسرية مع ناجية من معتقلات الحكومة السورية، بُثت على قنوات التلفزيون السوري الرسمية في وقت سابق.

قَوّلوني
 رنا (اسم مستعار): “كنتُ أؤمن بأميرنا وأنفذ كل أوامره، كنتُ المسؤولة عن سجن النساء، كانت مهمتي المفضلة تحضير الفتيات الصغيرات لتقديمهن هدايا للمقاتلين، كان عملي اليومي بشكل رئيسي تعذيب أي #امرأة لا تنفذ ما يطلب منها أو تمتنع عن الإجابة عن الأسئلة”.

رآى أبي هذه المقابلة ولازم بسببها الفراش حتى وفاته، لم تسنح لي الفرصة أن أودعه، ولا أعلم حتى هذه اللحظة، ماذا كان يفكر أو يشعر حينها. شاهدتها أمي وبكت كثيراً، خافت على إخوتي الصغار من أعمال الانتقام العمياء. أصبحت حكايتي رواية “ألف ليلة وليلة” لمعظم أبناء بلدتي. منهم من صدق ادعاءات الابنة “#الارهابية” وتوعدها ووصفها بأبشع الكلمات، وآخرون دافعوا عنها لأنها ما زالت #طفلة لم تبلغ السابعة عشرة، ويستحيل أن تقوى على هذه الممارسات البشعة.

أجل كنت في السادسة عشرة من عمري، ولم أكن قد رأيت أي أمير، إلا ذاك الشاب الذي أرسمه في أحلامي كلما سمعت قصة “سندريلا”، ولكنني اضطررت لاستيعاب كافة المصطلحات التي لقنوني إياها لأدلي بشهادتي أمام الكاميرات وأرضي فضول المشاهدين الذين غُسلت أدمغتهم ليصدقوا أن طفلة قادرة على التعذيب والتعاون مع الإرهاب.

طلبتُ الحياة فأهدوني الموت
مع بداية الاحتجاجات، كنت أخرج مع نساء البلدة في المظاهرات، نصيح بأصواتنا العالية للحرية والكرامة، كان الرجال في الشارع المقابل يصيحون بصوت أعلى وينشدون أغاني الثورة التي تشعل الحماس بنا جميعاً. لم نكن نخاف وكأن البلدة بأكملها لنا، رغم أن نهارنا غالباً ما كان ينتهي بعدد من الشهداء والجرحى وبأصوات مكتومة بالدموع والآلام.

لم يمنعنا حزننا على من قضى من الخروج في الأسبوع التالي، عام كامل وأنا أعمل مع نساء الحي على مساعدة الجرحى وإعداد الطعام للأطفال الذين أصيب أحد أفراد عوائلهم، لم تكن مطالبي أكثر من حياة كالحياة ولكنني دفعت الثمن غالياً جداً.

في إحدى المظاهرات، كنت أهتف بكامل طاقتي عندما سمعت صوت الرصاص بمحاذاتي ورأيت الناس تركض بهلع. كانت الطلقات فوق رؤوسنا مباشرة، لم أدر ماذا حدث بالضبط، رأيت أختي ممدة على الأرض والدماء تملأ ثيابها ثم تقدم مني رجل مسلح وضربني ضرباً شديداً، شدني الرجل بقوة ووضع عصابة على عيني ورماني في سيارة. لم أكن وحدي، كنت أسمع صوت الخوف ولا أقوى على إبعاده عني.

في الفرع.. كذبت لأنجو
مكثت في أحد الأفرع الأمنية أكثر من 40 يوماً، شهدت خلالها مختلف أشكال التعذيب النفسي والجسدي. تعرضت للاعتداء الجنسي، وأُجبرت على النظر إلى معتقلين آخرين تحت التعذيب. شاهدت الموت وطلبته لكنني لم أحصل عليه. كانوا يطرحون علي أسئلة كثيرة عن تنظيم “#داعش”، عن أميرهم وعن نسائهم. اتهموني بالعمل معهم ولكنني كنت أبكي وأصرخ وأكرر أنني لم أفعل شيئاً. لم تشفع لي طفولتي عندهم، واستمروا بتعذيبي حتى شعرت أخيراً أنني سأموت. فقدت كل قوتي، ورغبتي بانتهاء الألم كانت أقوى من الحقيقة فاعترفت بكل ما أرادوا. عندها قال لي الرجل المسؤول عن التحقيق معي بأنهم سينقلونني إلى #سجن_عدرا ولكن بشرط واحد: علي أولاً أن أصور اعترافي حول التعاون مع التنظيم وافقت دون تردد فقد كانت هذه طاقة الأمل الوحيدة التي أمامي لأخرج من هذا المكان.

انتهكوا كرامتي علناً بعد أن انتهكوا جسدي سراً
جلست أمام عدسة الكاميرا، كنت أتصبب عرقاً وأرتجف وأتلعثم بالكلمات، بدأت كلماتي بالإقرار أنني أعمل مع “داعش”، وأنني المسؤولة عن تأمين النساء لهن من أجل زواج النكاح. ليس هذا فقط، بل كنت أعذب اللواتي لا تلتزمن بالقوانين التي فرضها الأمير. جعلوني أقول أنني كنت أستمتع بعملي لأنه جزء من الجهاد. أجبروني على تشويه سمعتي وسمعة عائلتي. انتهكوا كرامتي علناً بعد أن انتهكوا جسدي سراً، علمت حينها أن الحياة كما أعرفها قد انتهت، وأنني منذ اليوم سأكون “الإرهابية” التي قبضت عليها قوات #الأمن وعاقبتها بما تستحق.

بعد أن أتممت المهمة، أعادوني إلى زنزانتي وانهالوا عليّ بالضرب والشتائم وكأنهم يصدقون ما أجبروني على قوله، وصورة أمي وأبي لا تفارق مخيلتي وسؤال لا أقوى على تخيل إجابته، ماذا سيواجهان بعد مشاهدتي على التلفاز. كنت أعرف أنهما لن يصدقا حرفاً ولكن ضغط المجتمع حولهما سيكون كافياً ليشعرا بالعار.

غادرت سوريا ولم تغادرني التهمة الكاذبة
قضيت عدة سنوات في سجن عدرا قبل أن أخرج إلى بلدتي. كانت الأعين تأكلني، أو ربما هذا ما توهمت به. علمت بمقتل أختي في تلك المظاهرة، وبموت أبي حسرة علي، وبأنهم اقتادوا أخي إلى السجن متهمينه بالتواطؤ معي لخدمة داعش. أمي لا تتوقف عن البكاء، وأخوتي الصغار كان لهم نصيبهم من التنمر بسبب أختهم “الإرهابية”. لقد دمرت هذه الحكاية حياة أسرة بأكملها. وأعرف أنني لست الطفلة الوحيدة التي عذبوها وأجبروها على الاعتراف علناً بأنها عضو في مجموعة إرهابية تستحق السجن والقتل.

قررت أن أغادر سوريا وألا أعود إليها أبداً، وأقنعت والدتي بأن رحيلي سيخفف من ألمهم جميعاً، علّ الناس تنسى قصتي وتغفر لي ذنبي الذي لم أرتكب. سافرت إلى دولة أخرى وحاولت البدء من جديد، ولكن القصة لم تنته. السوريون موجودون في كل مكان، والمقابلة التي تحمل اعترافي موجودة على الإنترنت.

حتى هذه اللحظة أنا خائفة من لعنة #الانتقام، وشعور الذنب تجاه أبي وأخي يأكلني. تراودني فكرة الانتحار، وما زلت حتى لحظة كتابة هذه الكلمات تائهة لا أعرف كيف يمكنني أن أبدأ من جديد وأوزار الماضي تثقل كتفي وروحي. أنا “إرهابية” بنظر الجميع وبشهادتي أنا نفسي، ولا أدري متى سأتمكن من الاستيقاظ من هذا الكابوس الذي يبدو وكأنه لن ينتهي.


تحرير: رجا سليم

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.