لم يتمكن علمانيو ما بعد 2003 في #العراق من الالتحاق بأي معسكر سياسي ـ نتحدث هنا عن العلمانيين الشعبيين ـ وليس عن مدعي العلمانية على القنوات الفضائية، الذين ساهموا بطريقة مباشرة في توغل الأحزاب الدينية بالحكم واشتركوا معها بنيل الحصص والمناصب والعجلات المصفحة وغرف السحت من الأموال، بل العلمانيين الطامحين بحياة كريمة وحرة، أؤلئك الذين صمتوا طويلاً وخافوا كثيراً من سلاح السلطة، وظلوا طيلة السنوات الماضية يتمشون هادئين في الظل، الذين كانوا في انتظار “غودو”.


ومع أنهم ليسوا حزباً أو كياناً سياسياً يُزاحم الأحزاب المسلحة وقادتها في القصور، داوم إعلام أحزاب السلطة على فتح ملف العلمانية في كل فترة، ووصف العلمانيين المساكين بالملحدين، ولا تزال محطات التلفزة الحزبية تسأل العراقيين في الشوارع: ما رأيكم بظاهرة الإلحاد والعلمانية؟. ويبقى العلماني يُراقب المهازل بصمتٍ وحسرة، ويقول في سرهِ: لا حول ولا قوة إلا بالله.


إن تحدَّث العلماني في العراق، عن هواهُ السياسي كما الآخرين، وعن أحلامه في تأسيس دولة تحترم الجميع، تحت شعار “العلمانية”، هاجمته الأحزاب: الانتهازي المارق الخمّار الهمّاز اللمّاز، زير النساء، اللص والانتهازي وعديم الشرف والدين.


وهذا ما نسمعه ونراه منذ سنوات على مواقع التواصل الاجتماعي. وإن كانت الأحزاب وجيوشها الإلكترونية وجحوشها منشغلين بصفقة أو خلافٍ أو نكسة، فمن يؤمن بالعلمانية ـ من سوء حظنا ـ يكون العثرة غير المتوقعة، حين يهجم نظيرنا بلا رحمة، بحجة أن العلمانيين “تقبيطة الكيا” لا يقدرون على مواجهة السلطة وسلاحها، لذلك علينا جميعاً أن نسكت، وننتظر القيامة.


كتب أحد الأصدقاء الأعزاء قبل أيام على “فيسبوك”: (العلمانية أو الأحزاب العلمانية أو التنظيمات العلمانية، لا يوجد منها في العراق أبداً. #العلمانية هنا موجودة على “فيسبوك” فقط. هذا تذكير لمن يمتلك أوهام القدرة على الطيران).


هذا المنشور، لم يكتبهُ صدري ولا كتائبي أو عصائبي، من سوء حظ العلمانيين، كتبهُ مدني يشارك بالاحتجاجات منذ أول يوم انطلقت ببغداد، ولم يسأل صديقنا المدني نفسه: “هل بالإمكان قمع الأحزاب بطريقة التغيير النوعي الشامل؟”، أم بالعمل على مُزاحمتها وخلخلة جذورها تدريجياً؟.


مهما سيكون جواب صاحبنا الذي يرى أن العلمانية موجودة في “فيسبوك” فقط، فإن الإيمان بقدرة التظاهرات الجارية على ترحيل الأحزاب بطريقة “شلع قلع” من حكم بلادنا الغنية، هو ضربٌ من الخيال، ومن دون الواقعية والخضوع لمفهوم “العافية بالتداريج” لن يحدث أي تغيير، يا صاحبي.


العلمانيون بعد ثورة تشرين أثبتوا أنهم أكثر من “تقبيطة الكيا”، وأنهم قادرون وربما جاهزون متجهزون للإعلان عن أنفسهم بصفاتهم السياسية الصريحة، مع أن هذا يمثل إقبالاً على الانتحار، ولكن “لا ولادة عظيمة من دون ألم” كما يقول #هيجل.


أمام العلمانيين في العراق فرصة تاريخية، وربما لن تتكرر، هي الالتئام ضمن خيمة سياسية واحدة أو أكثر، ومع أن المهمة صعبة، لكنها ليست مستحيلة، وقد نشهد انهيارات كثيرة بالخطوط الدفاعية للحراك العلماني العراقي، لأن الأنفاس الأخيرة للأحزاب الخاسرة لن تمر بسهولة، لا سيما وأن هذه الكيانات ستكون في عِداد الكائنات المنقرضة بعد الثورة الشبابية.


إضافة إلى حفلات التخوين التي ستستبق ظهور العلمانيين ضمن خانة واحدة، من الأصدقاء والأحبة، ولكن من دون هذا الطريق، ستستمر المعاناة ولن يحدث أي تغيير، فالأمل بالقوى الخارجية ليس صحياً، ولا علاج للعراق إن لم يكن عراقياً أصيلاً.


وعبر مجسات الأحزاب القابضة على السلطة في بلادنا القديمة والمهمة، فقد سَمِعت أكثر من صوتٍ جديد، وعَرِفت بوجود حراك جديد يهدف إلى المشاركة بالعمل السياسي، وهي الآن تكشر عن أنيابها لغرض الإطاحة بالمشروع السياسي “العلماني” الجديد لإجهاضه قبل ولادته.


وقد نشهد فشل مشروع النهضة العلمانية، فعالم السياسة في العراق ليس عادياً، ولكن على الأحزاب العراقية أن تفكر بوعيٍ ولو لمرة واحدة، بفسح المجال أمام الآخرين، من المدنيين والعلمانيين وغيرهم للمشاركة بالعمل السياسي وتقديم برامج وأفكار تقدمية جديدة تهدف للتغيير، وعليها أيضاً ـ وهذا الأهم ـ أن تتذكر نهاية #صدام_حسين وحزب “البعث”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة