ترجمة: سولارا شيحا

باءت التعددية الثقافية بالفشل، وأصبح شجبها اليوم شائعاً ومألوفاً. إلا أن عديداً من الانتقادات الموجهة لها لا يقلّ عنها إشكاليةً. وأنا أتكلم هنا بوصفي ناقداً لسياسات التعددية الثقافية لأكثر من عشرين عاماً، أي قبل أن يصبح الأمر سائداً.

التعددية الثقافية والتبادل الثقافي يسببان الانقسام

حتى نفهم السبب الذي يجعل التعددية الثقافية، وكذلك الكثير من الاتهامات الموجهة لها، بحاجة لمراجعة نقدية، علينا فهم وتحديد المشكلة الأساسية في مفهومها.

في الجدالات القائمة حول التعددية الثقافية يتم غالباً الخلط بين مسألتين. يُستخدم مصطلح ”متعدد ثقافياً” لتعريف المجتمع الذي يتّسم بالتنوع بشكل خاص، عادةً نتيجة الهجرة، وأيضاً لوصف السياسات اللازمة لإدارة هذا المجتمع. أي أصبح المصطلح يصف التجربة المعاشة للتنوّع، والسياسات التي تعتبر ضرورية للتعامل معه. بعبارات أخرى، تجسّد التعددية الثقافية وصفاً للمجتمع المتنوّع، ووصفةً لكيفية إدارته. ولذلك فإن التعددية هي المشكلة المُفترضة، والحل المُقترح في الوقت نفسه، خلط مؤسف بالفعل!

العيش في مجتمع أقل انعزالاً، وأكثر حيويةً وعالميةً أمرُ يستحق الترحيب والاحترام. التعددية الثقافية مرافعة لصالح الانفتاح: انفتاح العقل والحدود. إلا أنها بوصفها عملية سياسية، تعني شيئاً مختلفاً تماماً. إنها ترمز إلى مجموعة السياسات التي تُعنى بإدارة التنوّع، عبر حشر البشر في قوالب عرقية وثقافية مختلفة، وتحديد الاحتياجات والحقوق الفردية على أساسها، ومن ثم استخدام هذه التقسيمات لصياغة السياسات العامة. هذه ليست مرافعة لصالح الإنفتاح، وإنما لضبط الحدود، سواء كانت مادية أو ثقافية أو متخيّلة.

ثبت أن هذا الخلط بين التنوّع، باعتباره تجربة معاشة، وبين التعددية الثقافية، بوصفها عملية سياسية، أمر شديد الخطورة. فقد سمح من جهة لكثيرين بإلقاء اللوم على الهجرات الجماعية، لتبرير فشل السياسات الاجتماعية، وتصوير الأقليات على أنها المشكلة. ومن جهة أخرى، دفع كثيراً من الليبراليين واليساريين إلى التخلي عن مبادئ كلاسيكية للحرية، مثل الالتزام بحرية التعبير، باسم الدفاع عن التنوّع.

جزء كبير من نقد التعددية الثقافية في يومنا هو في الواقع عداء للهجرة والتنوّع، خصوصاً للمهاجرين المسلمين، ووجودهم في المجتمعات الغربية. ولهذا السبب فإن الدفاع عن التجربة المعاشة للتنوع حاسمٌ وضروريٌ جداً. لكن من المهم بالقدر نفسه أن نعارض التعددية الثقافية بوصفها عملية سياسية.

والمفارقة أن العملية السياسية للتعددية تقوّض كثيراً مما هو قيّم ومهم في التجربة المعاشة. عندما نتحدث عن التنوّع، نعني أن العالم مكان فوضوي، مليء بالصدامات والصراعات، ولكن هذه الصراعات بالتحديد هي الدافع والمادة الخام للمشاركة السياسية والاجتماعية. التنوع مهم فعلاً، ولكن ليس بالضرورة لأجل ذاته، وإنما لأنه يتيح لنا فرصة توسيع آفاقنا، ومقارنة القيم والمعتقدات وأساليب الحياة المختلفة، لنطلق أحكاماً بشأنها، ونقرر أيها قد يكون أفضل. التنوع مهم، لأنه يسمح لنا بالانخراط في الجدالات السياسية، التي يمكن أن تساعد في إنشاء لغة أكثر عالمية للمواطنة.

القيمة الأهم للتنوع، المتمثلة بتحفيزه الصدامات الثقافية والإيديولوجية، هي بالذات مايخشاه كثيرون. يمكن لهذا الخوف أن يتخذ شكلين، الأول هو النزعة الوطنية: هجرة المعتقدات تقوّض التماسك الاجتماعي وإحساسنا بهويتنا القومية، محوّلة مدننا إلى نماذج مصغرة عن لاهور واسطنبول. والثاني هو حجة التعددية الثقافية: احترام الآخرين يفرض علينا قبول طريقتهم في الحياة، دون انتقاد أو تحدي لقيمهم وممارساتهم، بل لابد من رسم حدود وتقسيمات واضحة بين الجماعات لتقليل الصدامات والاحتكاكات. وكما قال عالم الاجتماع البريطاني طارق مودود: ”إذا كان على الناس أن يَشغلوا فضاءاً سياسياً واحداً دون صراعات، فعليهم أن يحدّوا بشكل متبادل من مدى إخضاع معتقدات بعضهم البعض للنقد“.

مقاربة تشجع الخوف، وأخرى تشجع اللامبالاة. الأولى تنظر إلى المهاجرين بوصفهم ”آخرَ“، يشكل اختلافه تهديداً للمجتمعات الأوروبية. والثانية ترى هذا الاختلاف مسألةً يجب ببساطة التعايش معها واحترامها.

ماذا عن ”نزعة التبادل الثقافي“؟ وهي واحدة من تلك المفاهيم التي أصبحت سائدة في الوقت الذي تفقد فيه التعددية الثقافية بريقها. وفقاً لأحد مناصري هذه النزعة فإن ”نزعة التبادل الثقافي تهدف إلى تسهيل الحوار، والتفاهم المتبادل بين الأشخاص ذوي الخلفيات المختلفة.“ مناصر آخر يقترح أنه ”في حين يتلخص جوهر التعددية الثقافية بالاحتفاء بالاختلاف، فإن النزعة التبادلية تهدف إلى التعرّف على ثقافتنا وفهمها، وإيجاد أرضية مشتركة تفسح المجال لاندماج أفضل بين الناس“. هذه الحجج قد توحي بأني سأميل لهذه المقاربة، لكنّي لن أفعل. المشكلة أن نزعة التبادل الثقافي تبدو صعبة التعريف وأكثر غموضاً من التعددية الثقافية. في الغالب هي ليست أكثر من تعددية ثقافية مع اصرار على قليل من الحوار.

الثقافة بدلاً من السياسة

التعددية الثقافية ونزعة التبادل الثقافي هما نتاج ما أسميه ”المنعطف الثقافي“: وهو التحوّل الذي طرأ في العقود الأخيرة، وقادنا إلى معاينة التغيّرات الاجتماعية من منظور ثقافي بحت. هذا المنعطف هو المصدر الحقيقي للمشكلة.

لجذور ”المنعطف الثقافي“ تاريخ طويل، يعود جزئياً للردة الرومنسية على النزعة التنويرية العالمية، وللفيلسوف الألماني يوهان غوتفريد هيردر (١٧٤٤ – ١٨٠٣)، ومفهومه الشهير عن الثقافة. بالنسبة لهيردر فإن خصوصيات اللغة والتاريخ وأسلوب الحياة تضفي طابعاً خاصاً على كل مجموعة. وتُظهر الطبيعة الفريدة لكل شعب (Volk) عن طريق ”روح الشعب“ (Volksgeist)، أي الجوهر غير المتغيّر للمجموعة، الذي يُصقل عبر تاريخها.

 

لم يكن هيردر رجعياً أبداً، فقد كان مناصراً عظيماً لفكرة المساواة، وناهض العبودية والكولونيالية الأوروبية بشراسة، ولكن فهمه للثقافة لاقى صدى لدى مفكرين رجعيين. أصبحت فكرة الاختلاف الجوهري بين المجموعات موضوعاً مركزياً للتفكير العرقي، وطوّع مفهوم روح الشعب لخدمة مفهوم جوهرانية الاختلافات العرقية. رفض الراديكاليون الذين تحدّوا العنصرية والكولونيالية المفهوم الرومنسي للثقافة، وتبنوا بدلاً منه منظوراً عالمياً. من النضال ضد العبودية مروراً بالحركات المناهضة للكولونيالية، لم يكن الهدف حماية الخصوصية الثقافية، وإنما خلق ثقافة أكثر عالمية، يمكن للجميع المشاركة فيها على قدم المساواة.

أخذ المنظور العالمي هذا بالانحسار في العقود الآخيرة، بسبب تحلل عديد من الحركات الاجتماعية التي جسّدته. وملأت سياسات الهوية الفراغ الاجتماعي الذي خلّفه هذا التحلل. ومع تلاشي الصراعات الكبرى لأجل التغيير الاجتماعي، لجأ الناس لمعتقداتهم وثقافاتهم الخاصة، وتبنّوا نظرة ضيقة ومحدودة للهوية. أثناء هذا التحوّل، عادت الحجج الثقافية الرومنسية للظهور، ولكن بمظهر ”تقدّمي“.

الهوية بدلاً من الإيديولوجيا

تغيّرت نظرة الناس إلى أنفسهم وانتماءاتهم الاجتماعية، مع قلة الوضوح التي اعترت التقسيمات الأيديولوجية، التي ميّزت السياسة في القرنين الماضيين، وتآكل آليات التغيير السياسي وتضييق مجاله. لم يعد يُنظر إلى التضامن الاجتماعي بمنظور سياسي، وإنما من نواحي إثنية، ثقافية أو عقائدية. أصبح سؤال: ”ما شكل المجتمع الذي نريد العيش فيه؟“ ، أقلّ أهمية من سؤال: ”من نحن؟“. السؤالان متداخلان بالطبع، ويجب أن يشمل أي مفهوم للهوية الاجتماعية على إجابة لكليهما. ولكن تبقى العلاقة بين السؤالين معقدة ومتحوّلة.

في السنوات الأخيرة، أصبحت الإجابة على: ”ما شكل المجتمع الذي نريد العيش فيه؟“ أقل تأثراً بالقيم والمؤسسات التي نهدف لإرسائها، ومعنيةً أكثر بالقبيلة أو المجموعة التي يخيّل لنا الانتماء لها، أما الإجابة على: ”من نحن؟“ فلم يعد يحددها نوع المجتمع الذي نرغب بتأسيسه، وإنما التاريخ والتراث، اللذان من المفترض أن ننتمي إليهما. بعبارات أخرى، على خلفية تفتت الهويات السياسية والثقافية والقومية الواسعة، وفقدان أهمية الشبكات الاجتماعية التقليدية ومؤسسات السلطة والقوانين الأخلاقية، أصبح شعور الناس بالانتماء أكثر ضيقاً ومحدودية، يصوغه ماضٍ خرافي، بدلاً من فرص تشكيل المستقبل.

حلّت سياسات الهوية محل السياسات القائمة على الأيديولوجيا. صاغ هذا التحوّل شكل علاقة الأقليات بالمجتمع الأوسع، وكيف ينظر كثيرون إلى المهاجرين. طوّرت كل من الأقليات والأكثرية تصوّراً شديد الضيق عن ذاتها، نابعاً في المقام الأول من الثقافة والانتماء الإثني أو العقيدي، ما أدى إلى تفاقم ”الإختلاف“ والمبالغة بأهميته.

 

يحاول أفراد كثر من الأقليات إيجاد أنفسهم ومكانهم في المجتمع من خلال شعورهم بالاختلاف عن بقية المجموعات. جزء كبير من الأكثرية أيضاً، ينظر إلى الأقليات بشكل أساسي عبر عدسة اختلافها. في الوقت نفسه، يلوم كثيرون الهجرة على تقويض أو تآكل الثقافة القومية والتاريخ والتراث، أي يرونها تهديداً يجب مواجهته.

إعادة تسييس النقاش

تجسّد كل من التعددية الثقافية ونزعة التبادل الثقافي في الجوهر انعطافاً عن المفاهيم السياسية للعلاقات الاجتماعية، باتجاه تبنٍ حصري للمنظور الثقافي. تقسّم النزاعات السياسية المجتمع على أسس إيديولوجية، ولكنّها توحّد البشر من مختلف الإثنيات والخلفيات الثقافية. في حين تؤدي الصراعات الثقافية حتماً إلى التشظي. لا يهم في الصراع السياسي ”من أنت” بل ماتؤمن به، على نقيض الصراعات الثقافية و العقائدية.

غالباً ماتكون الصدامات السياسية ذات نفع، لأنها تعيد طرح القضايا الاجتماعية، على شاكلة سؤال: ”كيف يمكننا تغيير المجتمع للتغلب على هذه المشكلة؟“. يتضمن المنظور السياسي لمشكلة العنصرية، على سبيل المثال، أسئلة من قبيل: ”ما الجذور الاجتماعية للعنصرية؟ وما التدابير الهيكلية الضرورية لمحاربتها؟“ قد نختلف على الإجابة، ولكنه نقاشٌ مفيد بحد ذاته. بصياغة أخرى يمكننا القول إن النزاعات السياسية هي نمط النزاعات الضروري للتغيير الاجتماعي.

يحثّنا ”المنعطف الثقافي“ على معالجة المشكلات والصدامات السياسية باعتبارها قضايا متعلقة بالثقافة أو العرق أو المعتقد، ويحوّل بهذا النزاعات السياسية إلى قضايا غير نافعة وغير قابلة للحل، فبدلاً من التساؤل حول الجذور الاجتماعية للعنصرية، تركز مقاربة التعددية الثقافية على الاعتراف بالهوية الخاصة، والتأكيد العلني على الاختلاف الثقافي لصاحبها، والمطالبة باحترام معتقداته الثقافية والدينية، والتسامح معها.

لا يعني التأكيد على أهمية الصراعات بالنسبة للمجتمع أن كل صراع نافع بالضرورة. ولكن غالباً ماتكون الصدامات حول الأفكار والمعتقدات قيّمة وضرورية للتغيير الاجتماعي. لا تنجح التعددية الثقافية ولا نهج التبادل الثقافي بإيجاد حلول، عن طريق محاولتهما الحد من هذه الاشتباكات بإسم ”التسامح“ أو ”الاحترام“، بل تحولان النزاعات السياسية والإيديولوجية إلى صدامات ثقافية ومجتمعية. بالتالي فإن كلا النهجين يقيّد صدامات الرأي التي قد تكون مثمرة سياسياً، ويطلقان العنان لصراعات عبثية وضارة. تحويل النقاشات السياسية إلى صدامات ثقافية، وسجن الأفراد في ثقافاتهم وهوياتهم، يجعل هذه الصدامات حتمية وغير قابلة للحل في آن.

يشجع نهج التبادل الثقافي النقاش بين الثقافات وداخلها. ولكنه لا يشكك أبداً بأرضية الحوار أو النقاش، أي لا يتحدّى فكرة تأسيس النقاش في المستوى الثقافي. ليس الحل مجرد المزيد من الكلام، يمكننا التحدث بقدر مانشاء، لكن طالما بقي الحديث يدور في المستوى الثقافي، وليس السياسي، ستكون فرصنا شحيحة بالتغيير المجتمعي وتخطي الانقسامات. التحدي الذي يواجهنا يتطلب أكثر من مجرد الحديث: نحتاج تغيير أرضية الحوار ذاتها، وزرعها مرة أخرى بالرؤى السياسية.

“ضد المنعطف الثقافي” محاضرة ألقيت ضمن فعاليات مهرجان “Lector in fabula” في مدينة كونفرسانو، إيطاليا.

المصدر: PANDAEMONIUM (موقع كنان مالك)

كنان مالك: كاتب ومحاضر جامعي وصحفي بريطاني من أصول هندية، له مساهمات في فلسفة علم الأحياء، والنظريات الاجتماعية المعاصرة، خاصةً التعددية الثقافية والنظرية العرقية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.