ما مِن دولة تدخلت في الحرب السورية إلا ونالت قسطاً من لظى أوارها، ولعل تركيا هي أكثر مَن تورطت في سجالاتها العسكرية والسياسية، كيف لا وهي التي كانت أول مَن بادرت لاستضافة المعارضة السورية، وأقامت لها المؤتمرات، كما واستقبلت العسكريين المنشقين عن الجيش السوري، وأسست كتائب وفصائل دانت بالولاء لأنقرة أكثر من بلدها، وأصبحت تحارب بالوكالة عنها على طول الحدود السورية التركية، طوال سنيّ الحرب.

منّت تركيا نفسها بالشرق الأوسط الذي خططت لقيادته، ووجدت في الحراك الممتد منذ أواخر العام 2010 فرصة تاريخية لإنجاز مشروعها، عبر ذراعها الأقوى جماعة الإخوان المسلمين؛ فأقامت أفضل العلاقات مع مصر الإخوان، وتونس النهضة، وهي من استضافت قادة حركة حماس بعد خروجهم من سوريا.

كان إسقاط أنقرة لطائرة السوخوي الروسية عام 2015 نقطة تحول في السياسة التركية في سوريا، أخذ الحماس الزائد أردوغان حدّ اللاعودة، لكن العقاب الروسي كان أقسى من أن يتحمله التركي، فقد أجبرت موسكو الرئيس التركي على الاعتذار، وباللغة الروسية، بعد أن كان عنفوانه يمنعه من تقبل الفكرة رفضاً قاطعاً.

ليس هذا وحسب، بل حوّل وجهة تحالفه في الميدان السوري إلى الضفة المقابلة، وبات ينسق بأدق التفاصيل مع الخصمين اللدودين موسكو وطهران، وأسسوا ما اصطلح على تسميته بـ “ترويكا أستنة” ونتج عنه اتفاقات خفض التصعيد في عديد المناطق السورية، وكانت تعني بالضبط منع الصدام، ما أمكن، بين الجيش السوري وحلفائه من جهة، وبين الفصائل السورية الموالية لأنقرة من جهة أخرى، واتفقوا على احتواء مشروع الإدارة الذاتية المتشكل منذ مطلع 2014 واعتبرته تركيا تهديداً لأمنها الإقليمي، وسوريا مخططاً لتقسيم البلاد.

ظلت “تركيا العدالة والتنمية” تتعايش مع وجود تنظيم “الدولة الإسلامية” على حدودها، دون أن تحرك ساكناً، أو أن تهدد أية دولة أوروبية بموجة لاجئين إن لم تساعدها على إقامة منطقة آمنة في مناطق تواجدها.

وما إن سيطرت قوات سوريا الديمقراطية على تلك المناطق حتى خرج “المارد” التركي من قمقمه، وأصبح يهدد يمنة ويسرة، وأطلقت ثلاث حملات، أولاها في مناطق سيطرة “الدولة الإسلامية” في جرابلس والباب وإعزاز، تحت مسمى “درع الفرات” في 2014 بهدف قطع الطريق أمام أي مشروع كُردي يمتد إلى البحر المتوسط، وبالتالي منع أي كيان قابل للحياة.

الثانية كانت باسم “غصن الزيتون” عام 2018 وسيطرت فيها على عفرين، ثالث أضلاع مثلث الفيدرالية الكُردية المعلنة ربيع العام 2016.

أما آخرها، فعلياً، فكانت عملية “نبع السلام” في تشرين الأول/أكتوبر 2019 وسيطرت بموجبها على المنطقة الواقعة بين تل أبيض ورأس العين، بعمق 32 كم.

كما وأطلقت عملية شكلية تحت مسمى “درع الربيع”  لحفظ ماء وجهها بعد أن قُتل العشرات من جنودها في إدلب، في غمرة تقدم الجيش السوري وحلفائه في شباط فبراير 2020.

يعوّل الرئيس التركي على علاقته الشخصية والاقتصادية مع نظيره الأمريكي دونالد ترامب، ويسعى لفرض نفسه كقوة إقليمية ودولية، لكن ذلك يبدو محالاً، فالكباش الذي حصل بينه وبين الولايات المتحدة على خلفية اعتقال أنقرة للقس الأمريكي برونسون، والرد الأمريكي القاسي آنذاك بفرض عقوبات اقتصادية أثرت بشكل كبير على الاقتصاد التركي، إلى أن أطلقت أنقرة سراح القس.

كما أن الإصرار التركي على  المضي في علاقته المضطردة مع  موسكو، وصفقات شراء منظومة الدفاع الروسية (إس 400) وكذلك  الاستمرار في العلاقات التجارية المميزة مع طهران، في خرق للعقوبات الأمريكية على الاقتصاد الإيراني، هي عوامل تساهم في زيادة التباعد بين أنقرة وواشنطن.

الحرب التركية الأخيرة في شمال وشرقي سوريا ربما كانت الفرصة الأمريكية الأخيرة لثني تركيا عن المضي بتحالفها مع روسيا وإيران، لكن طموح أردوغان، ما زال يقاوم وقائع الأرض، فتلقف الهدية الأمريكية بالسماح له بالسيطرة على “المنطقة الآمنة” دون أن يبتعد قيد أنملة عن روسيا وإيران، وهو ما جعل واشنطن تغير من خططها في سوريا، وأعادت قسماً من قواتها إلى المناطق النفطية في شرق سوريا.

الوجود التركي في مناطق واسعة من الجغرافية السورية لن يعفيها من دفع أثمان دعمها المستمر لفصائل مسلحة متشددة، فَجُلُّ مناطق سيطرتها، أصبحت ملاذاً لقيادات تنظيم القاعدة، وتنظيم “الدولة الإسلامية”، وأصبحت الفصائل المتطرفة هي المتحكم الفعلي بإدارة تلك المناطق، وعليه فلا أمل من التعويل عليهم في بناء مستقبل مستقر لسوريا.
قضية اللاجئين السوريين في تركيا هي الأخرى سلاح تستخدمه أنقرة لترويع الدول الأوروبية، وفي غمرة مقتل الجنود الأتراك مؤخراً في إدلب، فتحت تركيا حدودها لعبور اللاجئين إلى اليونان في طريقهم إلى أوروبا، بل وأجبرت الكثير منهم على اجتياز الحدود ومواجهة أهوال اللجوء، ومن ثم ابتزاز الدول الأوروبية مالياً لإنهاء عمليات الترحيل، وهو أكد صوابية الرأي القائل بتعامل أنقرة مع هذه القضية الإنسانية كورقة مساومة لا أكثر.

قد يكون تحالف روسيا مع قوات سوريا الديمقراطية هو نقطة التحول في تغيير خريطة التعامل مع تلك الفصائل، فأنقرة تعهدت صراحة بفرز الفصائل المعتدلة عن تلك المتشددة، وهو ما لم يحدث إلى الآن، لذا فليس من المستبعد أن تبدأ عملية عسكرية قريبة ضدهم، خصوصاً بعد حل مشكلة شرق الفرات، وبذلك ستكون الطريق مفتوحة لبدء العملية العسكرية الأخيرة في الميدان السوري، وخلق الأرضية المناسبة لسوريا مستقرة، خالية من المتطرفين أصحاب المشاريع العابرة للحدود.

وستكون تركيا حينئذ مجردة من أهم أدواتها العسكرية، وربما السياسية.

في حين إن الداخل التركي أيضاً سيكون جاهزاً للانقلاب على السياسات التركية هذه، فأنصار حزب العدالة والتنمية في تناقص مستمر، وليس أدل على ذلك من نتائج الانتخابات البلدية عام 2019 وخسارة الحزب الحاكم لمدينتي أنقرة واسطنبول، وكذلك الشرخ الداخلي في الحزب الذي خلّفه انشقاق كل من بن علي يلدريم وعبد الله غل وأحمد داوود أوغلو، وإعلان الأخير تشكيل حزب سياسي، ربما يكون بديلاً لـ “عدالة وتنمية أردوغان”، أو قد تشهد تركيا سيناريوهات أقسى، يكون التقسيم إحداها.

السيناريو الآخر المحتمل هو تفجر الخلاف بين روسيا وتركيا بفعل دعم تركيا، المعلن والخفي، للمتشددين، حتى وصل بها الحال لإرسال المئات منهم للقتال إلى جانب الحكومة الليبية ذات النفس الإخواني بقيادة فايز السراج في مواجهة قوات اللواء خليفة حفتر، وبنتيجة الطلاق الروسي التركي ستبقى أنقرة دون ظهير فعلي، وستضطر صاغرة للقبول بالحلول الأميركية في المنطقة وأولها عقد سلام بينها وبين الكُرد في سوريا، وحل مشكلة القضية الكُردية في تركيا كذلك.

وهو حل ترغب به عديد الأطراف السياسية في الداخل التركي، باستثناء الحزب الحاكم وشريكه في السلطة، حزب الحركة القومية المتشدد، وهذا الحل، إن حدث، فسيفتح آفاقاً جديدة للمنطقة ككل، وللقضية الكُردية في كل من سوريا وتركيا وإيران، وسيشكل بوابة استقرار دائمة لتركيا كذلك، بعد عقود من حالة اللاحل للقضية الكُردية، والتي أثرت على البلاد ككل.


هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.