أفرزت تظاهرات “أكتوبر” واقعاً جديداً، غريباً ومؤلماَ، لم يكن بحسبان أي حزب سياسي يشترك بحكم عراق ما بعد 2003، كما أن مطالبها الواعية التي حملتها وضحّت لأجلها بمئات القتلى وآلاف الجرحى، ناهيك عن الاختطاف والتسقيط، كانت صادمة للتكتلات التي لم تتوقع في يوم، أن جيلاً سيفكر بأحسن منها ويتحداها، ولعل أكثر ما يُهددها حالياً ليس “كورونا”، فهذه الجائحة زائلة، ولا عودة الاحتجاجات، لأن عودتها متوقعة، بل أمراً واحداً، مرعباً ومعقداً، هو الانتخابات المبكرة، بقانونها الجديد ومفوضيتها خالية الدسم.

هذا الامتحان العسير، أخطر من ملف عدنان الزرفي المُتهم بأنه “أميركي” أو مصطفى الكاظمي الذي تتهمه الأحزاب الشيعية بأنه أميركي أيضاً، ولا الإبقاء على عادل عبدالمهدي المتهم بتصفية المحتجين وعلاقته المتينة مع طهران، أبداً. كل هذا الحديث قابل للتفاوض، ولكن ما هو غير قابل للتسويات، أن تخسر الأحزاب وتطوى صفحة ما بعد عام 2003 وتُفتح ما بعد 2019، بساسة جدد وأحزاب جديدة.

يقول لي أحد الأصدقاء، وهو عضو في حزب نافذ سيطر على وزارات وهيئات، ويملك فصيلاً مسلحاً يمثل جناحه العسكري، إن أكثر ما يخشاه ساسة المنطقة الخضراء حالياً، ليس خسارة المناصب والمكاسب، فهي مستعدة أن تضحي بها لفترة، ولا حتى السفراء والعقود والصفقات المالية، لأنها تملك الأموال الكافية لتمشية أمورها لسنوات مقبلة، ولكن ما تخشاه هو عدم البقاء.

في رواية “عائد إلى حيفا” لغسان كنفاني، جملة باتت مشهورة: “أتعرفين ما هو الوطن يا صفيّة؟ الوطن هو ألا يحدث ذلك كله”. ومن بعد الحديث مع صاحبي، عضو الحزب النافذ، سمعت منه هذه الجملة مع أنه لم يقلها، وكأنه كان ينوح ويُرددُ في سرّه: “ألا تحدث الانتخابات المبكرة كلها”.

ولماذا الخوف من الانتخابات المبكرة؟. لأن هذه الانتخابات هي صفعة من سلسلة صفعات وركلات لأحزاب السلطة، كونها عبارة عن “package” كامل، يعني أنها رزمة من الاصلاحات التي ماطلت القوى السياسية في تنفيذها، مثل استقلالية “مفوضية الانتخابات”، الجهة المشرفة على عملية الاقتراع وإدارتها، وقانون الانتخابات، إضافة إلى الأهم وهي القشة التي ستقصم ظهر الأحزاب، قانون الأحزاب.

هذا الأخير، ليس ضرباً من الخيال، ولا قانوناً ينتظر مبدعاً حراً ليخلقهُ، إنما هو جاهز ومكتمل منذ عام 2013، ولكن ما ينقصهُ شيء واحد، قد لا يعرفهُ غالبية العراقيين، إنه بحاجة إلى التطبيق فقط، ليفسح عبره المجال لعشرات القوى العراقية الوطنية للدخول على خط العمل السياسي ومزاحمة “الفاسدين”، وربما يتسبب بانقلاب نظيف على كل العملية السياسية في البلاد.

إلى جانب المتظاهرين، يؤيد رئيس الجمهورية برهم صالح والمرجع الديني السيد علي السيستاني، رفقة زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، ما يُعرف بـ”الإشراف الأممي” على هذه الانتخابات. ولكن لا أحد يسأل، كيف سيكون شكل هذا الإشراف؟

واقعياً، لا أحد يعرف شكل الإشراف، وهل سيكون شفافاً، أم أن العاملين لدى الأمم المتحدة سيتلقون تهديداتٍ تجبرهم على الرحيل أو التلاعب بالأرقام مقابل النجاة بحياتهم! لا أحد يعرف، ولكن يمكن التفسير على أنها ستكون مراقبة ومتابعة وتدقيق، وستتم بالتنسيق مع جهات حكومية وأحزاب، ولو افترضنا أن عمليات تزوير حدثت في بعض مراكز الاقتراع، فإن الإشراف الأممي لن يملك الصلاحية لإعادة الانتخابات في هذا المركز أو ذلك، إنما سيكتفي باصدار بيان يحتوي على ملاحظات مسبوقة بتنهيدات وجملة “لا حول ولا قوة إلا بالله”.

تعلم الأحزاب العراقية الحالية أنها لا تمتلك أي قاعدة جماهيرية، وأنها تمكنت من أصوات العراقيين البسطاء من خلال تعيينات وأموال فاسدة ووعودٍ وغيرها، وهذا الحديث ينطبق على كل الأحزاب، إلا اللهم الحزب الشيوعي الذي يرجع إليه أنصاره ببعض الولاء السياسي، وهو حالة لا يمكن اعتمادها حالياً.

خُذ حزب “الدعوة” مثلاً، أعتق الأحزاب الإسلامية الشيعية، تبعثر ولم يعد سوى حبات من عنقود انفرط من شدة الخلافات، نفس الحال مع الأحزاب السنية ولعل أبرزهم الحزب الإسلامي الذي يمثل الأخوان المسلمين في العراق، ولا يختلف الحال مع الأحزاب الكردية، فإمكانية فوز هذه الأحزاب بحظوظٍ كبيرة مثل السابق، باتت غير واقعية، في ظل الأزمات التي تتهافت على المواطن الكردي الذي يقع ضحية عراك أحزاب إقليمه مع المركز.

من مصلحة الأحزاب التي سيطرت على حكم العراق منذ عام 2003، أن تفسح المجال للآخرين، وبهذه الطريقة ستضمن هذه الأحزاب وجودها خلال المرحلة المقبلة، ولكن بتمثيل ونفوذٍ أقل، وهو ما يجعلها تعيش أطول، أما العناد والمواجهة المسلحة مع الطامحين الجدد، فسيقود إلى تجديد شعار “الشعب يريد إسقاط النظام”، الذي لم يُهمل في ساحة التحرير، إنما تأجل، وهذا الهتاف هو رصاصة قاتلة لكل الأحزاب. فهل تسقطون أم تعيشون بتمثيلٍ أقل في مرحلة مقبلة؟.

العقل يقول: ظلّوا كما الأحزاب الجديدة، وتشاركوا القرارات، والبقاء للأقوى، أما إذا أحببتم أن تبقوا وحدكم بلا منازع ولا منافس، فهذا يدفعنا إلى نصحكم، وأن تزوروا “يوتيوب” وتعاودوا فتح مقطعين مهمين، الأول لنهاية القذافي على أيدي شعبه، والثاني لإعدام صدام بأيدي الأميركيين، لعلكم تفكرون وألا يحدث ذلك كله.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.