تأرجحت العلاقات التركية الروسية إلى حافة المواجهة العسكرية المباشرة، حتى توقّع الكثيرون أن عقد الشراكة المسموم؛ سوف يتحوّل إلى عقد طلاقٍ بغيظ، لكن التوقعات لم تُصِب، حيث استطاع أردوغان عبر زيارةٍ مُحرجة لـ بوتين من استرجاء اتفاقٍ يهدئ النار المستعرة بين الحلفاء الخصوم.

فعلى الرغم من أهدافهما غير المتوافقة في سوريا، تريد كل من أنقرة وموسكو إدارة خلافاتهما بدلاً من المخاطرة بصراعٍ أكبر. ما يعطي إشارات على أن كل من الهجمات التركية على القوات الحكومية السورية والقصف الروسي للمواقع التركية؛ ما هو إلا جزء من عملية مساومة معقدة بدلاً من مقدمة لصراعٍ أكبر.

وما كان الموعد النهائي الذي حدده أردوغان للمشاركة المباشرة في الصراع العسكري- مالم ينسحب الجيش السوري من إدلب- إلا واحدة من خطابات أردوغان الشعبوية، فحتى إرسال أنقرة آلاف القوات والمعدات إلى الشمال السوري لم يكن مرجحاً لتدخل عسكري فعلي ضد قوات الأسد، حيث أن القوات الجوية التركية لم ولن تكون محمية ضد منظومة الدفاع الصاروخي S400 في جبال اللاذقية،  فهي تسيطر على الأجواء بشكل كبير.

الأمر المثير للسخرية أن السلاح الرادع هو ذات السلاح الذي فرضت موسكو على أنقرة شرائه على حساب العقوبات الأمريكية التي تضمنت استبعاد تركيا من التحالف الذي يعمل على بناء مقاتلات F-35 الجديدة. كما أن قتال الجيش السوري سيكون فعلياً هو قتال للقوات الروسية، ما سوف يؤدي حتمياً لعقوبات روسية اقتصادية شبيهة بعقوبات عام 2015.

وبرغم جميع المؤشرات التي تؤكد على أن الطائرات الروسية قصفت عن قصد المواقع التركية بالقرب من إدلب، إلا أن وزارة الدفاع الروسية أشارت إلى أن الضحايا الأتراك كانوا أضراراً جانبية نتيجة الضربات التي استهدفت “القوات الإرهابية” لتذهب أنقرة بعيداً عن مسارها بإلقاء اللوم على القوات الحكومية السورية بدلاً من روسيا.

هذه ليست المرة الأولى التي يتصاعد الموقف فيها بين أنقرة وموسكو، فقد شهدت الدولتان تصاعدًا في التوترات في نوفمبر 2015 ، عندما أسقطت تركيا طائرة روسية انتهكت مجالها الجوي ووصلت العلاقة إلى نقطة الانهيار عندما اتهم بوتين تركيا بتجارة الغاز مع الدولة الإسلامية “داعش”.

لكن التجارة بين روسيا وتركيا عادت إلى النمو بسرعة، بمساعدة خط أنابيب غاز TurkStream، والذي يتعدى بفوائده الجانب الاقتصادي، بل جمع أردوغان وبوتين على أداة يستفزون فيها أوروبا، والتي حولت موسكو وأنقرة إلى أصدقاء بين عشية وضحاها. كما وجد أردوغان حينها شريكًا متفهماً لا يطرح أسئلة مزعجة حول حقوق الإنسان وسيادة القانون أو حرية الصحافة، شريكاً لعب دوراً هاماً في سوريا مع إنكفاءٍ أمريكي وترددٍ أوروبي.

اشتدت قبضة الاستحواذ الروسي على التحركات التركية مع مرور الزمن، من استجرارها إلى آستانا وأجبراها على الاستغناء عن مسار جنيف الدولي، وتوريط أردوغان باتفاقات مناطق خفض التصعيد المشبوهة، والتي باتت نتيجتها ملايين من النازحين واللاجئين على حدود التركية تحوّل معظمهم إلى أدوات ضغط تركية تستفز بها أوروبا وأمريكا في حوض المتوسط وشرق الفرات.

تجاهل أردوغان الانتقادات الغربية اعتقاداً منه ببراعته في اللعب بالإشارات وأن لديه بدائل، لكنه فعلياً خدع نفسه وما كان يقامر عليه في مشاريع الطاقة، بات ليس ذو جدوى طويلة الأمد “كما كان يخيل له”، بعد الاكتشافات الكبيرة في جنوب شرق المتوسط واحتمال تحول مصر لمركز تجميع الغاز الذي سوف ينقذ أوروبا من قيود موسكو وأنقرة.

إضعاف تركيا علاقاتها مع الغرب، أدى الى عشوائية في تحركات أردوغان في المحيط الجيوسياسي، وحتى مع تذكير وتنبيه الغرب لأردوغان بعدم موثوقية بوتين، لعب أردوغان ورقته الاستفزازية الأخيرة وهي فتح الحدود أمام اللاجئين، الخطوة التي وضعت آلاف الأرواح على المحك، وأن عدة رؤساء دول وحكومات أوروبية يشعرون بقلق بالغ  من استفزازات أردوغان، إما المال أو اللاجئين وأن تفجير الاتفاق الخاص باللاجئين سيؤدي مرة أخرى إلى رفع عدد اللاجئين في القارة، ومن ثمة منح هدايا جديدة لحركات اليمين المتطرف والاتجاهات الشعوبية لنشر خطاباتها.

ملاحظة موسكو لسوء العلاقات التركية الأوروبية؛ دعا بوتين للإصرار على أن يتخلى أردوغان عن عداءه لنظام بشار الأسد وطالبه بالتوقف عن دعم الميليشيات الإسلامية المتطرفة. الى أن فرضت تركيا الانسحاب على القوات الجهادية من جنوب إدلب وبدأت بتسيير دورياتها المشتركة مع روسيا لتأمين طريق M4، لتكون هذه النتيجة المنطقية للسيطرة الروسية على القرار التركي في سوريا.

محاولاً اللعب على الحبال، قام أردوغان بزيارة إلى أوكرانيا في مارس/آذار الماضي، أعلن منها رفض أنقرة الاعتراف بشرعية ضم روسيا شبه جزيرة القرم، و أعلن عن تقديم مساعدات عسكرية بقيمة 50 مليون دولار، ورفع التعاون التجاري إلى 10 مليارات دولار.

وفيما بدا أنها مبادرة حسن نية يقدمها للناتو، تقبلت موسكو الزيارة والمبادرة التركية- الاوكرانية ببرود شديد حين قالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، في هذا الصدد، إن “التعاون العسكري – التقني الثنائي، من حق الدول ذات السيادة. (لكن) المشكلة تكمن في أن أوكرانيا تعاني من نزاع مسلح داخلي. في الواقع حرب أهلية.

هذه الأزمة الداخلية لها بُعدٌ دولي، حيث يعمل عدد من الدول والمنظمات الدولية كوسيط في التسوية”. وحتى الأوروبيون بدا أنهم باتو يقرؤون كلمات أردوغان و تصرفاته ببرود واستخفاف مع تكراره لعبارات “سنواصل دعم سيادة أوكرانيا ووحدة ترابها” وأن بلاده تتابع عن كثب وضع تتار القرم وأنها ستواصل تقديم الدعم لهم بالتعاون مع السلطات الأوكرانية.

الأوروبيون باتوا موقنين أن أردوغان يكرر ذاته ويتخبط في خطاب بذات اللهجة في عدة مواقع ومواقف منذ فترة طويلة، وقد لعب لعبة خطيرة لموازنة الغرب وموسكو ضد بعضهما البعض. في النهاية، يبدو أنه فقد كليهما.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.