ترجمة: سولارا شيحا

فرّط مواطنو الديمقراطيات الليبرالية بحرياتهم بين عشية وضحاها. وعلى الرغم من التناقض الظاهري، فإن عقيدة التباعد الاجتماعي الجديدة تؤدي إلى نشوء مجتمع شمولي من الأشخاص غير الفاعلين.

كيف وصلت الأمور لهذا الحد؟ لأن يَشعُرَ مجتمعٌ بأكمله بأنّه ملوّثٌ ومسموم، في مواجهة مرض، لا أستطيع شخصياً الحكم على شدّته، إلا أنه بالتأكيد ليس بسوء الطاعون؟ وأن يجزمَ الجميع بضرورة عزل أنفسهم في المنازل، وتعطيل سير حياتهم الطبيعية: العمل والصداقة وعلاقات الحب وحتى المعتقدات الدينية والسياسية؟ كيف أصبح كلٌ منا فجأةً ينظر إلى الأخرين وإلى نفسه على أنهم، أنه، مجرّد ناشرين للعدوى، يتوجّب تغطية وجوههم بالأقنعة، والابتعاد عنهم مسافة أمان لا تقل عن مترين؟ يبدو لي التفكير في الموضوع ضرورياً.

من الواضح أن الوباء كان موجوداً مسبقاً، وإن بشكل لا شعوري. حدثٌ مفاجئٌ وحيد كان كافياً لإظهار الظروف المعيشية على حقيقتها: إنها بالفعل لا تُطاق، تماماً مثل طاعون. وهذا هو الجانب الإيجابي الوحيد الذي يمكن استخلاصه من الوضع الحالي: من المحتمل أن يبدأ الناس لاحقاً بالتساؤل عمّا إذا كانت طريقة حياتهم هي الطريقة الصحيحة.

 

الأرثوذكسية الجديدة

ظاهرة أخرى تستحق الوقوف عندها هي الحاجة إلى الدين، التي تظهر بوضوح في الوضع الحالي. ويمكن الاستدلال عليها بملاحظة الاستخدام المتكرر والمهووس للمفردات والاستعارات الآخروية في وسائل الإعلام، وخطاباتها الثقيلة التي تستحضر باستمرار صور نهاية العالم. يبدو الأمر وكأن الحاجة إلى الدين، التي لم تعد الكنيسة قادرة على إشباعها، تبحث عن موطن جديد، وجدته فيما بات منذ زمن الدين الحقيقي في عصرنا: العلم.

يمكن للعلم، مثل أي دين، إنتاج الخرافات والمخاوف المألوفة في الأديان أوقات الأزمات، وما تجلبه من آراء وقوانين مختلفة ومتضاربة. تتراوح المواقف من أقلية مهرطقة (تضمّ بدورها علماء مشهورين) تنكر خطورة الظاهرة، إلى الخطاب الأرثوذكسي السائد، الذي يؤكد النقيض، إلا أن أنصاره وممثليه مختلفون جذرياً في آرائهم حول كيفية مكافحة المرض.

ومثلما هي الحال دائماً في مثل هذه الأوضاع، يَظهَرُ بعض الخبراء أو مُدّعي الخبرة على الساحة، من الحائزين على استحسان صاحب السيادة، الذي يفرض بدوره التدابير التي تناسبه، وفقاً لمصالحه الخاصة، والتي تميل لوجهة نظر هذا الفريق أو ذاك. مثلما جرى في فترة النزاعات الدينية التي قسمت الكنيسة.

الظاهرة الثالثة التي تدعو للتفكير تتمثل بالتفكك الصريح لكل قناعة وكل معتقد مشترك. بالفعل يمكن القول إن البشر لا يؤمنون بشيء سوى الحياة البيولوجية العارية، والتي يجب إنقاذها بأي ثمن. ولكن لا يتأسس على الخوف من فقدان الحياة سوى استبدادٌ وطغيان، فقط “ليفياتان”* المتوحش بسيفه المُشهَر.

ولذلك، عندما يحين الوقت ويتم الإعلان عن نهاية الوباء، لن يستطيع جميع أولئك، الذين حافظوا على حد أدنى من الوضوح، العودة إلى حياتهم قبل الأزمة. وربما يكون هذا الدافع الأكبر لليأس اليوم، بالرغم من قول أحدهم: «مُنحنا الأمل لأجل من لا أمل لهم»**.

 

التلطيف اللغوي الجديد

يعلّمنا التاريخ أن كل ظاهرة اجتماعية لها، أو يمكن أن يكون لها، تبعات سياسية. من المستحسن إذاً أن نمعن النظر في المصطلح الجديد، الذي وجد طريقه للتو إلى موسوعة الغرب اللغوية: Social Distancing  (التباعد الإجتماعي).

بالرغم من صياغة المصطلح بطريقة مشذّبة وملطّفة لغوياًـ لتجنّب التعبير القاسي”ترسيم الحدود”، إلا أنه يجب التساؤل عن نوع النظام السياسي الذي قد يترتب عن هذا المفهوم.

والتساؤل هنا ملح فعلاً، فالأمر لا يتعلق بفرضية نظرية بحتة. فكل حالة طوارئ (هذه المرة الطوارئ صحية) هي أيضاً مختبر تُجرَّب فيه حالات وأوضاع سياسية واجتماعية جديدة، تنتظر الإنسانية في المستقبل.

بالطبع هناك دوماً عددٌ من السّذَّج الذين يَدْعون لرؤية الإيجابيات في الوضع الحالي. فلا تُفوَّت فرصة للتذكير بأن التقنيات الرقمية الحديثة تتيح لنا لحسن الحظ التواصل عن بعد. بالرغم من ذلك، لا أؤمن أن المجتمع القائم على التباعد الاجتماعي صالحٌ للحياة سياسياً وإنسانياً. وبغض النظر عن أي موقف قد نتخذه، يبدو لي من الضروري أن نفكر في الموضوع ملياً.

الفكرة الأولى تتعلق بالطبيعة الفريدة حقاً للظاهرة التي أحدثتها تدابير التباعد الاجتماعي. يُعرّف “إلياس كانيتي”*** في كتابه الشهير “الجماهير والسلطة” الحشود التي تقوم عليها السلطة، بأنها تلك التي تجاوزت خوفها من الملامسة.

في حين يخشى الناس عادةً لمسات الغرباء، كل المسافات التي يشيدها البشر حولهم تنتج في نهاية المطاف عن هذا الخوف، فإن الحالة الوحيدة التي يتم فيها قَلبُ الخوف لنقيضه هي حالة “الجماهير”.

«إنها الجماهير وحدها، فيها يتحرّر الإنسان من رهابه من أن يُلمَس (…) بمجرّد أن يسلم المرء نفسه للحشود، يتلاشى خوفه من ملامستها (…) ذاك الذي يزاحمك هو أنت نفسك. ومن ثم، تحصل الأمور بسرعة، كما في جسدٍ واحد (…) هذا الانقلاب لرُهاب اللمس هو جزء من الجماهير، التي تصل الخِفّة التي تنتشر عبرها إلى درجةً ملفتة في مواضع كثافتها القصوى».

 

الجماعية الجديدة

لا أدري ما الموقف الذي من الممكن أن يتخذه “كانيتي” لو كان شاهداً على فينومينولوجيا الجماهير الجديدة، التي تواجهنا اليوم. إن ما خلقه الذعر وتدابير التباعد الاجتماعي هو بالفعل جماهير، ولكن نوع من الجماهير المعكوسة، إن صح التعبير، تتكون من أفراد يريدون الحفاظ على مسافة بين بعضهم البعض بأي ثمن. حشود غير كثيفة، بل مخففة ومميّعة، إلا أنها تبقى حشوداً إذا تم تعريفها من خلال تراصّها وسلبيّتها، كما وضّح “كانيتي” لاحقاً، بمعنى أنه: «لن يتاح لها التحرّك بحرية على الإطلاق(…)  الحشود الراكدة تنتظر، تنتظر رأساً يُمنح لها».

يصف “كانيتي”، بعد بضعة فصول، الحشود التي تتشكّل بوساطة حظر ما: «يرفضون، وهم متجمّعون سوية، القيام بأفعال كانوا يقومون بها أفراداً حتى تلك اللحظة. الحظر يأتي مفاجئاً، يقومون بفرضه على أنفسهم  (…)بكل الأحوال، فإن الحظر يضرب بأقصى قوة. يملك طبيعة أمر مطلق لا مشروط، إلا أن الشيء المميز له هو طابعه السلبي».

من المهم عدم تفويت السطر الأخير في هذه النكتة: لا تربط مجتمع قائم على التباعد الاجتماعي أية علاقة بالفردانية المحتفى بها (على خلاف ماقد يظن البعض بادئ الأمر بسذاجة). بل على العكس تماماً، هكذا مجتمع، كما نلاحظ الآن، ليس إلا حشوداً مُميّعةً، مبنيةً على أساس حظر، وهي لهذا السبب بالذات متراصة وسلبية بشكل خاص.

 

هوامش المترجم:
* ليفياتان: أو “لوياثان”، وحش بحري توراتي ذُكر في “العهد القديم”، وتكررت الإشارة إليه منذ أوائل القرن السابع عشر للدلالة على الأشياء أو الأشخاص ذوي القوة الساحقة، خاصةً الحكّام والدول الاستبدادية. وهو أيضاً  عنوان كتاب شهير للمفكر الإنجليزي “توماس هوبز”، صدر عام 1651، ويعتبر من الكتب التأسيسية في الفلسفة السياسية.

** ترجع المقولة للمفكر الألماني “فالتر بنيامين”.

***إلياس كانيتي: أديب ألماني حائز على جائزة “نوبل” للآداب عام 1981.

المصدر: NZZ

جورجيو أغامبين: فيلسوف إيطالي، أستاذ في “جامعة البندقية”، و”كلية الفلسفة الدولية” في باريس. يعتبر من أكثر الفلاسفة المعاصرين تأثيراً، اشتُهر بكتابه “حالة الاستثناء”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.