عديدة هي الأدوات التي استخدمتها أطراف الحرب السورية منذ نشوبها ربيع العام 2011 وتنوعت بين العسكرية والدبلوماسية والاقتصادية والإعلامية.

ويمكن إضافة سلاح الحصار والتجويع والحرمان من أبسط مقومات الحياة، وفي مقدمتها المياه، إلى تلك الأدوات، ولعل تركيا هي من أكثر الدول التي اتبعت الأسلوب هذا، ولم يثنها عن هذا الأمر تعرض مناطق شمال وشرقي سوريا، كما كل بقاع العالم، لجائحة كورونا، والتي من أبسط طرق الوقاية منها هي الاغتسال بالماء، وهو ما حرم منه أهالي مدينة الحسكة، والقرى المحيطة بها.

استخدام تركيا لسلاح المياه ليس وليد الأزمة السورية، فقطع مياه نهر الفرات كان أحد أساليب الضغط على الحكومة السورية، في خضم الصراعات بين الجارين اللدودين منذ ترسيم الحدود بين الدول الثلاث التي تشترك بالنهر، وهي كل من تركيا وسوريا والعراق.

وتتحكم أنقرة بحصة كل من البلدين وفق اتفاقيات لتقاسم مياه النهر، إذ أبرمت دمشق، بموجب بروتوكول العام 1987 مع أنقرة اتفاقاً موقتاً يقضي بأن تمرر تركيا ما يزيد عن 500 متر مكعب بالثانية من المياه في النهر، وهو ما لم تلتزم به أنقرة طوال السنوات التي تلت توقيع الاتفاقية، حيث بنت سدوداً في تركيا حالت دون وصول القدر المتفق عليه من المياه إلى الجانب السوري.

الإجراء التركي الأخير بقطع المياه عن محافظة الحسكة، في ظل أزمة كورونا استدعى تدخلاً من منظمة (هيومن رايتس ووتش) التي حذرت في بيانٍ لها أواخر آذار/مارس من استخدام المياه كسلاح حرب، في ظل انتشار فيروس “كورونا”.

كما أدانت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) انقطاع إمدادات المياه على الرغم من جهود المنظمة للحد من انتشار فيروس كورونا المستجد،  وهو ما يعرض الأطفال والأسر لخطر الإصابة بكوفيد 19.

وتؤمن محطة علوك الواقعة في ريف مدينة رأس العين، والتي تسيطر عليها الفصائل الموالية لأنقرة منذ تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي، تؤمن المياه لما يقارب 500 ألف نسمة، بينهم سكان مدينة الحسكة ومخيم “الهول” للنازحين، حيث يقيم الآلاف من عائلات مقاتلي تنظيم “داعش”.

استخدام سلاح الماء ليس الوحيد تركياً، فهي ما فتئت تمارس سياسة التتريك في المناطق التي تحتلها، ولم تكن المدن السورية استثناءاً في ذلك، فجرابلس والباب وإعزاز، التي سيطر عليها الجيش التركي والفصائل السورية الموالية له عام 2017 وكذلك عفرين التي ضمتها أنقرة إلى قائمة المدن التي سيطرت عليها في الحرب السورية منذ عام 2018 والمنطقة الواقعة بين رأس العين وتل أبيض والتي سيطرت عليها القوات التركية وفصائلها السورية في حربها الأخيرة عام 2019، كلها أصبحت تنصهر في بوتقة التتريك، فأصبح الطلبة في تلك المناطق يدرسون اللغة التركية، وأُلحقت الدوائر الرسمية بالولايات التركية الأقرب لها، بل وأصبحت تجارياً ملحقة بتركيا، وتستخدم عديد المدن العملة التركية في تعاملاتها.

كذلك فإن استخدام تركيا لسلاح اللاجئين هو من أكثر الملفات قسوة في الحرب السورية، فحكومة “العدالة والتنمية” وبعد أن استغلت ظروفهم في مخيمات اللجوء التركية، قامت بابتزاز الدول الأوربية في هذا الملف، وجندت عدداً كبيراً من اللاجئين في فصائل موالية لها، وحوّلت بوصلة أهدافهم في البحث عن حياة طبيعية إلى المشاركة في حروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، واضطروا لخوض غمار حروب تركيا العابرة للحدود مع مشروع الإدارة الذاتية في  شمال وشرق سوريا منذ إعلانها عام 2014 وشاركوا في المعارك التركية الثلاث “درع الفرات” و”غصن الزيتون” و”نبع السلام” التي أشعلت اصطفافات عرقية بين أبناء البلد الواحد في مستقبل سوريا، خدمة للأجندة التركية.

بل وأرسلت المئات منهم إلى ليبيا للقتال إلى جانب حكومة الوفاق الليبية التي تدور في فلك جماعة الإخوان المسلمين، والتي طلبت رسمياً الدعم من الحكومة التركية في مواجهة اللواء خليفة حفتر الموالي لدول الخليج، وما كانت من أنقرة إلا وأن أرسلت سورييها للقتال هناك.

معاناة اللاجئين السوريين مع تركيا مستمرة، فخلال الهجوم الأخير للجيش السوري وحلفائه على مدينة إدلب، ومقتل العشرات من الجنود الأتراك، نفذت تركيا تهديداتها المتكررة لأوروبا، وفتحت حدودها لعبور اللاجئين إلى اليونان، وتركتهم يلاقون أهوال السفر براً، وعانوا ما عانوه من تعامل السلطات اليونانية معهم خلال رحلة ذهابهم، غير المكتملة إلى أوربا.

كما يعاني اللاجئون داخل تركيا من تمييز عنصري متزايد في الآونة الأخيرة، حيث قتل عدد منهم في قضايا عنصرية، دون أي تدخل حاسم من جانب الحكومة التركية لإنهاء هذه المأساة.

تمضي أنقرة في سياساتها في سوريا غير آبهة بأي ضوابط إنسانية في سعيها لإسقاط مشروع الإدارة الذاتية، ويبدو أنها مستعدة لاستخدام كافة الأساليب للوصول إلى مبتغاها، ولن تألو جهداً في سعيها هذا، حتى لو كلّف الأمر قطع المياه عن ملايين السكان في مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، وهو ما قد يتكرر في قادم الأيام، فأنقرة باتت معتادة لاستخدام الماء كسلاح ضد كل مَن تراه يهدد مصالحها، وقد جربته مع كل من الحكومة السورية، والحكومة العراقية، والآن مع الإدارة الذاتية.

وعليه فإن البحث عن بدائل لهذه المعضلة يجب أن يكون في سلم أولويات الحوارات مع الدول الضامنة للعملية السياسية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة وروسيا.

تبدو المراهنة على إيجاد حلول وسط مع الجانب التركي ضرباً من الخيال، فهي تجاهر بالمضي في مسعاها، دون أن تهتم بإيجاد حل يراعي هواجسها مع الإدارة الذاتية، ورفضت عدة وساطات أميركية في هذا المنحى، وتتنقل في تحالفاتها بين واشنطن وموسكو لهذا الهدف وحسب، والتي يبدو أنها ستصيبها في مقتل، فاللعب على وتر التوازنات بين القوى العظمى أمر أخطر من أن تتحملها دولة بحجم تركيا، وفيها من المشاكل الداخلية ما قد يهدد وحدتها.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.