تكتشف المعلمات في المدارس ورياض الأطفال صفات المجتمع وتغيراته، ويمكن للمعلمات اللاتي أمضين سنوات عديدة في سلك التعليم، تلخيص مشاكل المجتمع بشكل دقيق جداً في كثير من الأحيان.

“سهير”، معلمة في إحدى المدارس الأميركية للجالية العربية، تعمل في مجال التعليم منذ ثمانية عشر عاماً، لاحظت خلال مسيرتها المهنية، أن الأهالي أصبحوا أكثر دفئاً ودعماً للأطفال بعد أن كانوا شديدي المطالبة بالواجبات المنزلية والاختبارات، وكانوا يحاسبون أطفالهم بشدة إن لاحظوا تراجعاً في مادة من المواد.

تعتبر “سهير” أن هذا التغيير إيجابي جداً، لكن التغيير السلبي هو ازدياد ظاهرة الحماية المفرطة.

تقول “سهير” إن الأطفال أصبحوا يتلقون اهتماماً أكبر من السابق، إلا أن بعض الأهالي باتوا مبالغين في حماية أطفالهم، وليس من السهل أن يدركوا أين الخطأ الذي يرتكبونه لرغبتهم في سلامة أطفالهم.

 

الحماية المفرطة

الحماية المفرطة، وبحسب التعريف البسيط لهذا المصطلح في القواميس، هي “المبالغة في رعاية شخص ما بشكل يعيق قدرته على اكتساب الخبرات اللازمة لنمو وتطور شخصيته واعتماده على ذاته”.

فاللعب والتفاعل الحر مع البيئة والأشياء، هو ما ينمي شخصية الطفل وقدراته بحسب علماء النفس، ولا يخلو اللعب والتفاعل مع المحيط من نسبة الخطر.

 

لكن، هل كل خطر كارثة؟

يتفق الأهالي والمعلمات على أهمية توفير بيئة آمنة للطفل وحمايته من الأخطار، حيث تؤثر الأخطار العميقة وطويلة الأمد مثل الاضطهاد والتحرش والتنمر والإهمال على شخصية الطفل، فيتراجع نموه العقلي والجسدي كما تتراجع مهاراته وقدراته، لكن هناك نوع آخر من الأخطار قد تحمل خبرات جيدة للطفل، فمثلاً يحمل أي نشاط حركي خطر الإصابة بالكدمات أو الجروح أو حتى الشجار أحياناً، فهل من الطبيعي أن نمنع الطفل من الحركة واللعب؟

تقول “سهير”: رأيت في الملعب طفلاً يجري بسرعة واصطدم دون قصد بالطفلة “ليلى” قبل أن أتمكن من الوصول إليها، فلم يكن أمامي سوى مراقبة وقوعها، تكورت ليلى على نفسها بحركة غريزية أثناء الوقوع وحمت رأسها، ثم نهضت ونفضت التراب عن ركبتيها، التفتت نحو الطفل الآسف ووبخته، ثم تابعت اللعب وكأن شيئاً لم يكن.

دون شعور، تذكرت “سهير”، الطفلة “رهام” التي اكتفت بالصراخ بالأمس، ولم تعرف كيف تبتعد عن الكرة التي كانت تطير باتجاهها، وبعد أن أصابتها الكرة بكت أكثر من عشر دقائق.

تتابع “سهير” بالقول، أعرف أنني سأتلقى تعليقاً سلبياً من أهل “رهام” وقد يطلبون بقاءها في الصف لأن الملعب “غير آمن”، فأهل “رهام” أطباء ويعرفون كيف يؤدي التعقيم الشديد إلى ضعف في جهاز المناعة، أتمنى أن يعوا سريعاً أن الحماية المفرطة أكثر ضرراً على ابنتهم من الخدوش.

 

أسباب الحماية المفرطة

تختلف أسباب الحماية المفرطة باختلاف “الحامي” فالبعض يحمي بدافع الحب الشديد والبعض بدافع الخوف الشديد والبعض بدافع الأنانية والتملك… تعددت الأسباب ولكن الحماية المفرطة مشابهة للقمع من حيث أثرها على نمو الشخصية السليمة.

لا تخفى شخصيات الأهالي على “سهير” في أثناء اجتماعها الدورية مع أهالي الطلاب، فتلاحظ هي وغيرها من المعلمات عدم قدرة بعض الأمهات على أخذ قرار يتعلق بالطفل أو حتى النقاش أحياناً دون وجود الأب وهذا التراجع سواء أكان بسبب التربية المنزلية أو بسبب قمع من الزوج أو بسبب فرط الحماية فهو بلا شك أدى إلى ضعف كبير في المهارة وتحمل المسؤولية.

فمشكلة الحماية المفرطة تستمر لتؤثر على حياة المراهقين والمراهقات والشبان والشابات، فإذا كانت ظروف الحياة أكثر دعماً للذكور لتجاوز هذه المشكلة تدريجياً نظراً لاضطرارهم المرجح للاعتماد على الذات وحمل المسؤولية والانخراط في الحياة، فإنها على عكس ذلك بالنسبة للإناث اللاتي يمكن أن تستمر مشكلتهن طوال حياتهن، فينتقلن من تحت جناح الأهل إلى الزوج إلى تشكيل عبء على الأبناء فيما بعد.

وتكمن الصعوبة في دخول “الشخصية المحمية”، إن صح القول، في حلقة مفرغة فهي تحتاج لحماية نظراً لقلة حيلتها، والحماية تزيدها ضعفاً واتكالية.

لكن الجيد في الأمر أن تطور وتغير الشخصية يستمر طوال حياة الإنسان ورغم أن هذا التغيير يصبح أصعب ويحتاج لجهود أكبر ووقت أطول مع التقدم بالعمر إلا أنه يبقى ممكناً.

وكم من الأمثلة التي تغيرت فيها شخصيات السيدات بعد حادث انفصال أو ترمل أو الانتقال للعيش في بلد جديد والاعتماد على النفس، ورغم أن الخوف على الأحبة صفة محببة، إلا أن الكثير من الحماية قد يبعدهم فعلياً ودون قصد عن بر الأمان.


 

 

 

 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.