ترجمة: سولارا شيحا

 

تصطاد طيور “الغاق” السَّمكَ في مياه “البندقية” الشفافة. وتتجوّل الخنازير البرية في شوارع “برشلونة” والماعز البري في شوارع “لاندودنو”. سماء “لوس أنجلس” زرقاء صافية، ومن “نيودلهي”، الخالية من سحب الدخان، يمكن مجدداً رؤية جبال الهيملايا.

«الأرض تتعافى، نحن الفيروس» يقول “الميم” المنتشر بسرعة عبر الإنترنت. ويتردد صدى هذا الشعار عند عديد من صانعي السياسة والمعلّقين والمشاهير.

صرّحت “إنغر أندرسن”، المديرة التنفيذية للبرنامج البيئي في الأمم المتحدة: «توجّه الطبيعة رسالة لنا». ويكتب الصحفي “فينتان اوتول”: «من وجهة نظر الأم الطبيعة، يقوم فيروس “كورونا” بتحسين الأمور»، وتوافقهُ “سارة فيرغسون”، دوقة “يورك”، بتغريدة لها على تويتر: «أرسلتنا أمنا الطبيعة إلى غُرفتنا، مثل الأطفال المدلَّلين. لقد حاولت تحذيرنا، ولكنّها استعادت السيطرة في نهاية الأمر».

ربما تحتاج “فيرغسون” إلى تذكيرها بأن «استعادة السيطرة» هذه عَنَت حكماً بالموت على مئات الآلاف من الناس، وخسارة مئات آلاف آخرين سبل عيشهم، وتهديداً «بمجاعات ذات أبعاد مهولة» على حد تعبير “ديفيد بيزلي”، من برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة.

علينا أن نذكّر أنفسنا أيضاً أن مايُعَد اليوم غير طبيعي و آثم، احتفي به البارحة على أنه طبيعي وأصيل. فشجب واستنكار الأسواق الصينية الشعبية، ووصفها بالمقززة والشريرة، بدأ بعد انتشار الوباء في مدينة “ووهان”. أما وصف البروفيسور “ألان ليفينوفيتز”، أستاذ الدين في جامعة “جيمس ماديسون”، لتجربته في الصين، السابقة لانتشار” كورونا”، فيعكس انطباعاً مختلفاً: «يمنح التنزه بين أكشاك الهواء الطلق إحساساً بالتحرر والأصالة، وكان تغييراً مرحباً به عن محلات السوبر ماركت المعقّمة، حيث يُستَّفُ لحم الدجاج خلف الزجاج، مغلّفاً بالبلاستيك وأسماء شركات لا أوجه لها. كان اللحم هنا في حالته الطبيعية: غير مبرّد، غير مُعالج، غير مطبوخ، وأحياناً غير مذبوح».

بالرغم من أن “ليفينوفيتز” أنهى كتابه الجديد “طبيعي”  قبل انتشار فيروس “كورونا”، إلا أنه كتاب لا غنى عنه، وخصوصاً لناشري شعار «البشر هم الفيروس».

يوضح “ليفينوفيتز” أن مفاهيم “الطبيعة” و”الطبيعي” أصبحت مرادفة لمفاهيم “الإله” و”المقدس”. فنحن البشر خطاة ليس بسبب عصياننا الإله، وإنما بسبب تدنيسنا للطبيعة، معلمتنا، التي يتوجب من حكمتها استخلاص القوانين الأخلاقية الناظمة لطريقة حياتنا.

لطالما شكّل هذا الاستحضار الأخلاقي للطبيعة وسيلة لتبرير قوانين وبُنى بشرية معينة. بدءاً بالعلاقات بين المجموعات العرقية المختلفة مروراً بالمثلية الجنسية، تمّ اتهام أنشطة معيّنة بانتهاك الحدود الطبيعية، وبالتالي وجب حظرها.

حظر الزواج بين الأعراق، كما رأى قاضي ولاية “بنسلفانيا” عام ١٨٦٥، كان ضرورياً لمنع «فساد الأعراق».

وللمفارقة يلجأ أيضاً عديد من أنصار الزواج بين الأعراق، أو الزواج المثلي إلى الطبيعة. فقد حاجج نُشطاء القرن التاسع عشر أن الاختلاط العرقي موجود عبر التاريخ. ويُصر نشطاء مجتمع “الميم” المعاصرون على أن الانجذاب للجنس نفسه موجودٌ أيضاً عند الأنواع غير البشرية.

يُلاحظ “ليفينوفيتز” أن “الصلاح الطبيعي” هو «أخلاق مرتزقة، يمكن لأي شخص توظيفها لخدمة قضيته». هو صفة لكل من الله والطبيعة، تعني أنه أو أنها في صفّنا دائماً.

لا يقتصر حكم “غير طبيعي”  على أنماط الحياة التي تُعتبر شاذة، وإنما يمتد ليضمّ قائمة طويلة من التطورات العلمية والتكنولوجية، التي ينظر لها النقّاد على أنها انتهاكٌ للطبيعة، من الاخصاب في المختبر، والغذاء المعدّل وراثياً، وصولاً للقاحات والاستنساخ. يُنظر لحال الطبيعة على أنه قالب نموذجي لما يجب أن يفعله البشر. إلا أن جانباً كبيراً من الحياة الإنسانية، من تعاطي الاسبرين لتخفيف الألم، إلى الثلاجة التي تحفظ الحليب من الفساد، هو اعتراف بأن العمليات الطبيعية غالباً ماتعمل ضد مصلحتنا، والموقف الأخلاقي هو إبقاؤها تحت السيطرة.

يُلاحظ “ليفينوفيتز” أن نزعة رمنسة “الطبيعي” متجذّرة في الامتياز. أي يملك أولئك المتمتعون بنمط حياة يحميهم بشكل كافٍ من ويلات الطبيعة رخصةً حصرية للنظر إليها برومنسية.

يتمتع مواطنو البلدان ذات النظم الصحية المتينة بامتياز تفضيل الولادة الطبيعية أو الأدوية البديلة أو رفض اللقاحات. بينما تكون معدلات وفيات الأمّهات والرّضع عالية بشكل مرعب في الأجزاء الأكبر من العالم، التي تكون فيها الولادة “الطبيعية” فرضاً على النساء، لا خياراً. إنه الفقر الذي يجبر الكثيرين اعتماد الطب التقليدي أو العيش دون لقاحات.

بعد مطالعته في مجلة “نيويوركر” عن مدى تفوّق أسلوب تربية الأطفال “الطبيعي” المُتبع في قبيلة “ماتسيجنكا” الأمازونية، سافر “ليفينوفيتز” إلى البيرو ليعاين الوضع بنفسه. وأصيب بخيبة أمل، فهُم لا يعيشون في “حالة طبيعية”، وإنما مع ألواح الطاقة الشمسية والهواتف المحمولة. يروي “ليفينوفيتز” أنه عند سؤاله لأحد السكان المحليين هناك عمّا إذا كان سعيداً بتوفر الكهرباء: «نظر إلي بارتباك، وأجاب ببساطة: نعم. وأكمل وكأنه يشرح أمراً لطفل صغير: الآن يمكننا أن نرى في الليل».

بالطبع، يبقى أولئك الذين هم بأمسّ الحاجة إلى عجائب “اللاطبيعي”، التي يعتبرها سكّان الأمم الغنية أموراً مفروغاً منها:  كهرباء، ماء نظيف، تبريد، مواصلات وطب حديث، الأكثر عرضة للأخطار الناجمة عن المجتمع الصناعي. قُتل الأسبوع الماضي أحد عشر شخصاً على الأقل، وجُرح المئات، بعد انفجار وتسرّب غاز في معمل كيميائي في بلدة “فيساكاباتنام” الهندية.

ولاتزال ذكرى كارثة “بوبال” المهولة عام ١٩٨٤ تطارد الهند، عندما أدى انفجار في مصنع للمبيدات الحشرية إلى إطلاق غاز “إيزوسيانات الميثيل” المميت. مما عرّض نصف مليون شخص للغاز السام، وقَتل ربما ستة عشر ألف شخص. واليوم، وبعد حوالي أربعة عقود، مايزال الموقع غير خالٍ من السموم.

إن الفقراء، سواء في الجنوب العالمي أو في البلدان الغنية، هم الأشد معاناة من التلوث الصناعي،  والأكثر عرضةً لخطر تغيُّر المناخ، وهم المهدَّدون الأكبر من تبعات فيروس “كورونا”. وهذا ليس لأن البشر ينتهكون الطبيعة، وإنما لأن المجتمعات البشرية منظّمة بطرق تضمن بقاء الابتكار والتنمية امتيازاً لقلة قليلة، في حين يوزع الحرمان وسوء الصحة بكرم على البقية.

لا يتم تحدي كل من ضعف التنمية والدمار البيئي بادّعاءات بلهاء من قبيل «البشر هم الفيروس»، وإنما بمواجهة السياسات التي تحدّ من الابتكار، وتفرض عدم المساواة، وتفضّل الربح على الإنسان. نحتاج لنقاش ومعالجة “شر” الاجتماعي، لا “خير” الطبيعي.

 

المصدر: The Guardian

كنان مالك: كاتب ومحاضر جامعي وصحفي بريطاني من أصول هندية، له مساهمات في فلسفة علم الأحياء، والنظريات الاجتماعية المعاصرة، خاصةً التعددية الثقافية والنظرية العرقية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.