يتكرر في الكُتب التي تتحدث عن الشرطة، بوصفها جهاز اً سياسياً وسيادياً، المثال الشهير الذي ضربه المفكر الفرنسي “لويس ألتوسير”، في نصه الشهير “الأيدولوجيا والأجهزة الأيديولوجية للدولة”، ضمن الفصل الذي يتحدث عن الـ”ـInterpellation” أو “التوقيف”، في هذا المثال يصف “ألتوسير” اللحظة التي يصيح فيها الشرطي في الشارع منادياً، ليستدير بعدها أحدهم لتلبية النداء. يعكس هذا الموقف الأسلوب الذي تعرّف فيه السلطة الأفراد، والكيفية التي يقبل فيها الأفراد وسم “المتهم المحتمل”، فالنداء هنا ذو قيمة أدائية، وتلبيته تعني الاعتراف بسلطة المُنادي، وحقه بإيقاف سير الفرد، أي تعطيل الزمن الشخصي، على أساس الاشتباه أو الاختلاف عن “النظام العام”.

هذا “النظام العام” تغيّر تعريفه وشكله بعد انتشار فيروس #كورونا حول العالم، إذ تم إعلان حالة الطوارئ الطبيّة، والتي تتجلى بإغلاق الفضاءات العامة (مطاعم، سينمات، مسارح، الخ) ومنع الاحتشاد والتجمهر والتنقّل. الأكثر أهميّة ضمن هذه المعايير تطبيق “التباعد الاجتماعي”، أي الحفاظ على مسافة متر أو مترين بين كل شخصين في الفضاء العام. الإشكاليّة، في “حالة الاستثناء” التي نختبرها حالياً، هي من المسؤول عن تطبيق “التباعد الاجتماعي”؟

تبنى جهاز الشرطة في معظم أنحاء العالم مسؤوليّة تطبيق “التباعد الاجتماعي “، دون وجود أي نص قانوني يضبط هذا التطبيق، خصوصاً أن هذا التباعد “توصيّة” فقط، ما دفع #الحكومة_البريطانيّة مثلاً للتصريح بأن التوصيات غير ملزمة قانونياً، والتأكيد أن الشرطة ليست مسؤولة عن تطبيقها في حالة المخالفة، خصوصاً تلك التوصيات التي تخصّ الحفاظ على مسافة من الآخرين، وتفادي المواصلات العامة، وارتداء الكمامات في الأماكن المغلقة. في حين أن الأمر في #نيويورك مثلاً مختلف، إذ أصبح جزءٌ من جهاز الشرطة مراقباً للفضاء العام، يمنع الناس من الوقوف في الشارع،  ويفضّ التجمعات كونها تخالف “التوصيات”، دون أي نص يضبط ممارسات الشرطة، ويحدّد صلاحياتهم ضد المخالفين.

نظام الاستثناء الحاليّ يفعّل أيضاً إشكالية الحريات الشخصيّة، لإيضاح ذلك نستعيد المثال الذي ضربه المفكر الكاميروني “أشيل مبيمبي”، في كتابه “سياسات العداوة”، إذ يسأل: «في ظل حظر التجوّل المفروض، هل العائد إلى منزله بعد ساعة الحظر يعتبر مخالفاً للقانون؟ لنطوّر هذا المثال: هل من يدعو إلى مظاهرة أو تجمع يخرق القانون؟».

هذه الأسئلة التي تبدو ساذجة لا إجابات واضحة لها، لكن يمكن فهمها على مستويين: الأول يرتبط بالحريات المدنيّة، التي في حال تم تقنينها بشدّة، نرى أنفسنا أمام نظام قمعي أو استعماري، يصنّف الناس إلى مطيعين وأعداء يستحقون العقاب. والمستوى الثاني مرتبط بجهاز الشرطة، الذي تتحول ممارساته في ظل الطوارئ إلى أفعال ارتجاليّة، أي يعود للشرطي نفسه تقدير الحالة التي على أساسها يعطّل “القانون” أو يفعّله (حظر التجول في مثالنا). والأهم يصبح الشرطي مسؤولاً عن تقدير كيفية التعامل مع المخالفة، أي هو من يقرر كتابة ضبط أو لا، وهو من يقرر هل يجب اللجوء للعنف من عدمه.

يوظّف جهاز الشرطة، في ممارساته غير القانونية لتطبيق التباعد الاجتماعيّ، حجتي “الحفاظ على الصحة العامة” و “حماية الحياة”، وتتمثل عدوانيّة هذا التطبيق أولاً بتواجد الشرطة في الفضاء العام، فالشرطي تحيط به هالة من عدم الثقة والعنف الدفين، كونه يمثل السلطة وسطوتها، تلك التي “تضبط بالقوة” النظام العام. أي أن مجرد وجود الشرطي على باب محطة القطار يثير الخوف، خصوصاً أنه يمتلك سلطة المنع والمخالفة على أساس الاشتباه، الذي يعتمد على التقدير الشخصي البحت، بغض النظر عن وجود إذن التجول أو لا.  كما في #فرنسا، الذي مُنع فيها البعض من السفر بسبب “عدم منطقيّة أسباب تنقلهم”، وتمت مخالفة البعض الآخر بسبب تنزههم حول منازلهم، دون مراعاة مسافة المئة متر المُفترضة، التي يُسمح لهم بالتجول فيها، والتي لا يمكن قياسها بدقّة.

هذا التقدير الشخصي يعيدنا إلى مثال “التوسير”، الذي يتحوّل إثره الشرطي إلى صيّاد، بمعنى أنه يراقب الفضاء العام ويصرخ وينهر من يخالف، لكن مفهوم المخالفة كما أشرنا غير واضح، ولا نص قانوني يضبطه، وأي نقاش مع الشرطي قد يصل إلى حد العنف. كما يحدث في الولايات المتحدة، فسؤال “المتهم” رداً على نداء الشرطيّ : «لماذا تأمرني بالابتعاد؟  ماذا يحصل؟» انتهى باشتباك وكدمات في جسد “المتهم”، الذي كان يقف في الشارع فقط، وانتهى به الأمر تحت قدميّ الشرطي، ويصف “داكون أوينز”، الذي صوّر الحادثة السابقة، المشهد بقوله: «لم يحدث شيء، لم يوجد أي شيء يستفزّ الشرطي. قرّر فجأة إخراج مسدسه الصاعق والاتجاه نحو “الضحية”. أظنه كان محبطاً، وقرر تفريغ إحباطه».

التخوّف الحالي من “التباعد الاجتماعي” أساسه تحوّل عدم الانصياع لتوصيات السلطة إلى جريمة يعاقب عليها القانون، خصوصاً حين يتعلق الأمر بالحريات الفرديّة في الفضاء العام. يتحوّل الشرطي الذي يراقب هذا الفضاء إلى قاضٍ لا يمكن نفي “حكمه”، كونه عبر صوته فقط (إن لم يستخدم العنف) يصنف الأفراد إلى أصحاء مطيعين، وأعداء محتملين يهددون الجميع، أي أن نداء الشرطيّ العلنيّ حين يستهدف أحدهم يحوله إلى “عدو للشعب”، وإلى تهديدٍ محتمل لجميع الأًصحاء، بالتالي لا بدّ من العنف بمواجه هذا “التهديد”، في حال لم ينصع الفرد، إلى جانب المحاسبة القانونيّة، المفارقة هي أن الشرطي نفسه لا تنطبق عليه هذه “التوصيات”، كونه لا يقترب من زملائه فقط، بل أيضاً يقترب من “المتهمين” ويتعامل معهم باليد، أي يتحول هو نفسه إلى حامل للعدوى والخطر الصحي.

تهدد لا قانونيّة ممارسات الشرطة الثقة بهم، إن وجدت،  كون هذه الممارسات ارتجاليّة، وهنا تظهر معضلة أخرى: إن كان ما تقوم به الشرطة “غير قانوني”، ووصل حدّ العنف، هل نرد بالضرب حين تضربنا الشرطة لأننا نتمشى في الشارع مثلاً؟ وهل يجب على الشرطيّ ضربنا بالمقابل، إن كان أحدنا يمسك يد الآخر مثلاً؟

في لحظة الاشتباك، إن حصل، الجواب غامض،  البعض قادر على المقاومة، والبعض ينهار أمام العنف الشديد، لكن هنا يُطرح سؤالٌ حول حق الدفاع عن النفس: إن كان الجهاز  المسؤول عن حماية المواطنين يتهجّم على موضوع وظيفته  (المواطن) بحجة الحفاظ على الحياة، هل يعتبر الرد عل عنفه من قبل المدنيّ دفاعاً عن النفس؟

هذه الأسئلة، مهما غيرنا السياقات والمصطلحات، لا إجابات واضحة لها، بسب غموض مفهوم الاشتباك نفسه، وميل القضاء للانتصار للشرطة دوماً، لكن  يمكن الإشارة إلى أن هذه الإشكاليّة أساسها علاقة العنف بين “الشرطة” و بين “المواطنين”، وأحد أعراضها يتجلى بأن الشرطي يمتلك حق استخدام السلاح  ضد المواطن في حالة الخطر، سواء كان هذا التهديد موجهاً ضد النظام العام أو حياة الشرطي نفسه، بعكس المواطن  المدنيّ الذي إنّ مسّ الشرطي يُعتبر أنه تهجّم عليه.

هذه العلاقة العنيفة، التي تهدد الحريات المدنيّة، تفترض أيضاً وجود حياة ذات قيمة وأخرى أقل قيمةً، وسلوكاً يشكّل خطراً وآخر لا، هذا التصنيف قائم على تقدير الشرطي نفسه، لا النص القانوني، ليتحول شخص الشرطي الموجود في العلن إلى تهديد للمارة والمتسكعين والمتنزهين، الذين حتى لو انصاعوا لـ”التوصيات” الحكوميّة، سيظلون مهددين بمزاج الشرطيّ،  الذي قد  يكون قاتلاً.  كما حصل مع المواطن الأمريكي #جورج_فلويد، الذي فارق الحياة لأن الشرطيّ، وبحجة مقاومة فلويد لـ”التوقيف”، أبقى ركبته على عنق الأخير لمدة ثمانية دقائق وست وأربعين ثانيّة، منهياً حياة “فلويد” بتهمة استخدام عملة مزورة من فئة العشرين دولار، لنرى أنفسنا أمام خطر عقلية الشرطيّ وتحيزاته العنصرية والأيديولوجية، التي تضاف إلى خطر الوباء واحتمالات العدوى.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.