ترجمة: سولارا شيحا

 

هل اللغة وباء؟ هل الأفكار الرّديئة مُعدية؟ هل في كثرة العدد أمان؟ هل المشاعر خطيرة؟ أم أنها تدفعنا للمضي قُدماً؟ هل يتّسم الجنس البشري بالهشاشة والضعف؟ أم بالمرونة والشجاعة؟ هل يقودنا التحيّز المُسبق والشك؟ أم يمكننا تنحيةُ مظالمنا جانباً؟ هل الحُب داء؟ أم هو الدواء الوحيد؟

في حال صدّقت الادِّعاءات الُمتعاقبة التي قدّمتها الكتابة عن الأمراض المُعدية، فإن الإجابة عن كل ماسبق هي: نعم.

في رواية “جيمس ميك” الأخيرة “إلى كاليه، في أوقات عادية”،  التي تدور أحداثها أثناء انتشار “الموت الأسود” في أربعينيات القرن الرابع عشر، توبّخ امرأةٌ شابّة ابنةَ عمّها “بوجي” قائلة: «أنت لا تفهمين المجاز». حسناً، إن كان الأمر كذلك، فسَتكون “بوجي” غير مُعَدَّة على الإطلاق لتلقي أعمال “جيمس ميك”، أو أعمال عشرات الرّواد السابقين له بآلاف السنين.

في مطلع “الإلياذة”، العمل الأدبي المؤسس للتراث الغربي، يأمر الرّاوي ربّات الإنشاد بالغناء عن الغضب “Menis”، الذي تفجّر به المحارب الإغريقي “أخيل”، ما أسفر عمَّا لا يُحصى من القتلى. لمَ كان لغَضَبِه هذا الوَقع؟ قد يتعلّق السبب المباشر بالاستراتيجية العسكرية، فأنت لا تُريد شخصاً سريعَ الغضب قائداً، إلا أن “هوميروس” يصنّف الغضب من ضمن الأوبئة القاتلة، وليس بشكل مجازيٍّ فقط.

أثار “أجاممنون”، الذي أغضَبَ آخيل، حنق الإله “أبولو” أيضاً، فأطفأ “أبولو” غَضبه بضرب جنود “أجاممنون” بالطاعون. وبحلول السطر الخامس والسبعين من النشيد الأول، يتبدى الغضب على شاكلة ما يُعدي ويقتل. تنبثق أفعال الغيظ من أفعال غيظ أخرى، وتنتشرُ المشاعر السلبية محمولة في الهواء، تدعِّمها وتحرّضها حربُ الأجساد على الأرض.

نُقلت الملحمة الأدبية إلى اللاتينية باتباع نهجٍ أدبي دُعيَ “imitatio”  أو “aemulatio” أي “المُحاكاة”، وعُرفَ فيما بعد بـ”التقليد” “traditio”، المُشتق من فعل “التمرير للتالي” “handing-on”.

ألا يُمكن تشبيه هذا النهج بعدوى تنتقل من ثقافةً لأُخرى؟ بالفعل عُرفَ النهج الأدبي المذكور لاحقاً تحت اسم “التأثير” “influence”، المُشتق من فعل “التدفُّق” “flowing – in” (وهو أصل كلمة إنفلونزا – المترجم).

بالرُّغم من أن “فيرجل”، أبرز خُلفاء “هوميروس”، كان مشغولاً بأصلِ ونَسَبِ السلالة الحاكمة للإمبراطورية الرومانية، ولم يُعر الأوبئة كثيراً من الاهتمام، إلا أن العلماء والباحثين مازالوا حتى يومنا يتسائَلون حول ماهية طاعون الماشية متعدد الأعراض، الذي وَصَفَهُ “فيرجل” في عمله “جيورجيكون”، مطبّقين بذلك طريقة التفكير والبحث العلمي على شكلٍ من الكتابة كان أكثر اهتماماً بالرَّمزية.

عندما قام الأكاديمي “إريك لانغلي” في كتابه “التَّعاطُف المُعدي” بوصف مسرحية “شكسبير” “ترويلوس وكريسيدا” بأنها «أحد أبرز مسرحيات “شكسبير” الوبائية»، لم يكن يقصد أنها تتخذُ الأوبئة موضوعاً لها، بل أن تصويرها للنميمة والافتراء يُحيل إلى المخاوف السائدة عن كون المجتمعات بؤراً للتلوّث. تعجُّ “ترويلوس وكريسيدا”، حسب “لانغلي”، بمزيج من التهديدات الحقيقية والرمزية: «نشاط ذري، طلقات غير مرئية، وابل من التعليقات المسمومة المبطَّنة، والنظرات المُشيِّئة».

يَستَحضِرُ “لانغلي” العلاقة بين صعود الفردانية وازدياد الأمراض المُعدية، فبعد انتشار “الموت الأسود” في القرن الرَّابع عشر، تكرَّرت موجات تفشِّي الوباء في أوروبا ومنطقة البحر المتوسط لقرون لاحقة. وكان لشبح الطاعون تأثير كبير، ليس فقط على تاريخ الطب والمجتمع، وإنما أيضاً على الذاتية: كيف ننظر لذواتنا، وتحديداً كيف ننظر لبعضنا البعض.

أصبح من المُتعذّر التمييز بين الاعتماد على الذات والحماية الذاتية. يشرح “لانغلي” أن فترة عصر النهضة بأكملها أدَّت دور “جَفلة فلسفية”، ابتعدت عن المجتمع والتضامن باتجاه “العزل الذاتي”. فالشبكة التي ينتشر عبرها الفيروس مبنية على الأسس ذاتها التي تُبنى عليها الحميمية. ولذا، فإن على الحميمية، أو التقارب بأي حال، أن تختفي. كان لـ”شكسبير”، بطبيعة الحال، رأيان يتعلقان بشرعية هذا الموقف، متفهماً الوساوس حول العدوى من جهة، ومؤكداّ في نفس الوقت على فِتنةِ وسحر التقارب الإنساني.

كان لـ”الطاعون الدبلي”، الذي تفشى في لندن عام ١٦٦٥، بعد مرور خمسين عاماً على وفاة “شكسبير”، تأثيرٌ لامفرَّ منه على الأدب، وخصوصاً على شكل جديد كان قد ظهر ليعكس صعود الفردانية. تجري أحدث رواية “يوميات عام الطاعون” 1722 لـ”دانييل ديفو” في لندن، وكان من الممكن تَوَقُعْ أنها ستقدّم ضجيجاً مدنياً حيوياً، يتباين مع أجواء روايته “روبنسون كروزو” ١٧١٩، التي تجري أحداثها على جزيرة مُنعزلة. ولكن ادخِل الطاعون على مدينة كُبرى مزدحمة، وسرعان ما ستجدُ نفسكَ مُحاطاً بالصمت. الذاكرة الجمعية لما حلَّ بمدينة “ديفو” عندما كان طفلاً، مكّنته من إنتاج تصوير آخر للعزلة والاغتراب.

تبدأ “يوميات عام الطاعون” بسرد “الكلام المُتداول”: أخبار عن «عودة الطاعون مجدداً إلى هولندا»، الذي أُحضِرَ، «كما يقولون»، من إيطاليا، أو رُبّما بلاد الشام، أو كانديا، أو قبرص… تتعدد الشهادات، وتتضارب الأقاويل.

يُلملمُ الرّاوي “هـ . ف” قصة حياته في فترةٍ لاحقة، فيتذكر ماضيه في وقت لا صُحفَ فيه “تنشر” الشائعات والتقارير: كانت الرسائل الواردة من الخارج منبع الشّائعات في البلد. وعلى الرُّغم من كون “ديفو” شاهدَ عيانٍ على حدثٍ تاريخي، ويحاول تشييد سجلٍّ رسمي للأحداث، إلا أن كتابته تَغلي باستعارات تُشير إلى أن نواياه ليست توثيقية بحتة.

يتذكّر: «لقد كان وقتاً سَقيماً بالفعل ليُصاب المرءُ فيه بالمرض». ولايفصل في بعض الأحيان بين المجازي والحَرفي إلا فاصلة صغيرة: «إن وجه الأشياء، كما قلت، تبدّل كثيراً، وهبطَ الحُزن والأسى على كلِّ وجه».

كتبت “ماري شيلي”، بعد قرن من “ديفو “عام ١٨٢٦، روايتها “الرجل الأخير”، والتي من المرجّح أنها أول رواية تشويق تُعالج الأوبئة، الصنف الأدبي الذي صار تقليداً حتى يومنا هذا، ويبدو أنه كان محبوباً ومزدهراً جداً قبل أربعين عاماً، مع روايات مثل “الصمود” لـ”ستيفن كينغ” عام ١٩٧٨، و”عيون الظلام” لـ”دين كونتز” عام ١٩٨١، وعلى مستوى أقل من التأثير الثقافي رواية “فيروس ماربوغ” لـ”ستانلي جونسون”، والتي حُوّلت إلى فيلم سيُصوّر هذا الصيف، تحت عنوان أكثر لفتاً للانتباه: “الفيروس”. إلا أن الأوبئة الكُبرى أصبحت أندر في أوروبا الغربية، ولم تُكتب روايات مبنية على الابتكار في السرد الواقعي، الذي طوّره “ديفو” ومعاصروه.

حرص الكُتَّاب على إظهار الوباء تهديداً أبعد مايكون عن الكُمون، واستخدموا الموضوع في كثير من الأحيان منجماً للرمزية. يتخيّل “راسكولنيكوف” بطل “الجريمة والعقاب” ١٨٦٦ «وباءً بلا أعراض عدا الاغتراب الإنساني». وتَظهرُ العدوى في رواية “مِدِل مارش “١٨٧١ حاضرةً في عوالم التفكير البشري. فتُدرك “السيدة كادوالر”، إحدى شخصيات الرواية، أن رأيها بـ”دوروثيا بروك” قد «أعداهُ/أصابَه» ضعفُ تعاطُفِ زوجِها. وفي مثالٍ آخر تُظهر شخصيات عائلة “فينشي” «مناعةً» تقيهم من العقلية الإنجيلية، التي ترى «التسليات القليلة الناجية في المنطقة» شبيهةً بعدوى الطاعون.

ويُعدُّ الحدث، الذي وصفه “تشارلز ديكنز” في كتابه “تاريخ طفل في إنجلترا ” ١٨٥٢ بـ«ذاك الداء المَهيب: الطاعون»، مصدراً للصور والمجازات عن الحمّى الجماعية. ابتدأ “ديكنز” روايته “المنزل الكئيب” ١٨٥٢ بكلمة واحدة كافية لتحديد الإطار والموضوع في آن: «لندن». ومالذي يميّز اللندنية هذه؟ بدايةً، الوحل المُرتفع الذي يشقُّ فيه المُشاة طريقهم مُتدافعين، تتصادم مظلّاتهم ببعضها «في مزاج سيء سائدٍ مثل عدوى». ومن ثمَّ الضباب، الذي ينتشر ممتداً على طول نهر “التايمز”، مُعَلَّقاً في «عيون وحناجر مُتقاعدي “غرينيتش” العتيقة».

يكتب ديكنز في أحد فصول “دوريت الصغيرة “١٨٥٥، بعنوان: “سَيرُ وباء” أن العدوى الأخلاقية، مثل تلك الجسدية، يُمكنها أن تنتشر بخبثِ وسرعة الطاعون، وستتمكّنُ من أصحاب الصحة الأمتن، وستتوسع بسبلٍ غير متوقعة على الإطلاق. يُكمل ليذكّرنا أن المخلوقات البشرية «تتنفَّسُ الجو المحيط»، وستكون نعمةً على البشرية إن حُوصرَ الملوَّثون، أو تمّ «خَنقهم بإيجاز دون تعقيد»، قبل أن يصبح سُمُّهم «مُعدياً».

إنه ذلك «الكلام المُتداول» مرةً أخرى، الوباء المقصود في رواية “ديكنز” هو الأقاويل عن العائد المالي المُغري الذي تُقدِّمُه شخصية المُستثمر “السيد ميردل”. مِن أين أو مِمَن التقطَ “السيد بانكس”، الشخصية الودودة والسَّاذجة في الرواية، هذه العدوى السائدة؟ الموضوع ليس أصعب من التقاط حُمّى، يؤكد “ديكنز”. الأوبئة الاجتماعية تنشأ في الرجال الخبثاء ولكن سرعان ما تُصيب الصّالحين. عندما يتكلّم “السيد بانكس” بحماسٍ مُعدٍ عن عرض “السيد ميردل”، يشرح “ديكنز”: «هذه هي طريقة نقل هذه الأمراض، هذا هو الأسلوب الحذق الذي يتّبعونه». فحتى عند مُقاربة “ديكنز” البلاء الأكبر بوصفه مؤرخاً، كتب عن وجوب منع الموتى من “التّواصل” مع الأحياء. أي أنه مع تطاوُل المجاز على الحياة الواقعية، يُصبح الواقع بالمقابل نسيجاً من المجازات.

يُدافع الراوي في “تأملات جدّية”، الجزء الثالث من “روبنسون كروزو” ١٧٢٠، عن الحكايات الرمزية والاستعارات، باعتبارها مُلازمةً لكل عمليات التخيُّل والخلق. فيقول: «من المنطقي وصف وشرح نوع من أنواع السجن عن طريق نوعٍ آخر، مثلما هو من المنطقي والمعقول وصف وشرح أي موجودٍ بالفعل عن طريق غير الموجود». إن كان من المسموح لنا اختراع أشياء كاملة من الصفر، فمن المؤكد أنه من المسموح أن نَستبدل الفِراش بجزيرة، أو السجن بحُطام سفينة، كي نرسم ونَصِفَ ملامح العزلة.

الرواية المرجعية التالية، التي كَرّست نفسها لتصوير بدايات ظهور داء، وهو هذه المرة وباء تنقله الفئران في بلدة جزائرية، ليست إلا رواية “الطاعون” لـ”ألبير كامو” ١٩٤٧، والذي انتهجَ أسلوب “روبنسون كروزو” سابق الذكر.

من المُدهش أن “كامو” استمد الإلهام من نهج “ديفو” المجازي، المُطوَّر في سلسلة كتب “كروزو”، بمقدار ما ألهمته رواية أخرى لنفس الكاتب عن ذات الموضوع. فعلى غرار الرّاوي “هـ . ف” في كتاب “ديفو” “يوميات عام الطاعون”، راوي “ألبير كامو” في “الطاعون” هو الآخر مؤرخٌ هاوٍ يعتمد الوثائق والشهادات. ولكن إحدى تلك الأشياء التي يُحرّكها وينقلها الطاعون هي الأفكار! يكتب راوي “كامو”، بعد أن بدأ الموت يحصد سُكّان “وهران”: «ومن هنا بدأ الخوف، ومعه التأمُّل الجدّي».

استخدم “كامو” تيمة الوباء للتأمل في تأثير الفاشيّة، ففرنسا قد أُصيبت لتوّها بـ«الطاعون البُنيّ»، وكذلك للتفكير في مجموع الأيديولوجيا والأفعال التي عُرفت باسم “الكولونيالية”.

أعاد “فيليب رُوث” أدب الأوبئة إلى المستوى الحَرفي، في روايته الأخيرة المدهشة والمتشابكة “نمسيس”، مُستبدلاً الإشارة العامة إلى عقد الأربعينات من القرن العشرين في رواية  “كامو”، بسنة محددة هي ١٩٤٤، مرسومة بحيوية ودقة، وهي السنة التي تفشّى فيه مرض شلل الأطفال، مودياً بحياة كثير من أطفال “نيو جيرسي”. ولكن حتى هنا، في كتاب مستغرقٍ في زمانٍ ومكانٍ مُحَدَّدين ومخاوفَ واقعية، سُرعان ما تتراكم الاستعارات والمجازات عن التلوّث والعدوى: الفاشية، معاداة السّامية في أمريكا، التأثيرات المتفشّية للحرب العالمية الثانية، والعيوب المُزمنة المستوطنة في البشر.

يُمكن ترجمة عنوان رواية فيليب رُوث “Nemesis” إلى “غضب”، دلالةً على “نمسيس” آلهة الثأر اليونانية، مما يُعيدنا إلى رؤية “هوميروس” عن القوّة التي، بمساعدة الآلهة والفئران، تُدمّرُ البشر.

يستكشف “رُوث” سؤال: ماذا يُدمّرنا؟ وليس الموضوع هنا موضوع شلل أطفال، ولا حتى فاشيّة أوروبية، وإنما القرارات المُستحيلة التي تجلبها الأوبئة. يُقرّرُ “بوكي كانتور”، المدرّس في “نيوارك”، أن يَهرب من المدينة ويعزل نفسه في جبال “بوكونو”، ولكننا نكتشف لاحقاً أنه قد أصيب بالمرض مُسبقاً. وكما هو الحال في رواية “كامو”، ينبثق الراوي بضمير المتكلّم من صوت المجتمع، في القسم الأخير من “نمسيس”، للإشارة إلى مساميّة الحدود بين الفرد والجماعة، والتي يُعززها منطق الأوبئة.

في نصف القرن الفاصل بين “الطاعون” و “نمسيس”، تطوّر نوع فرعي مُتكامل من الأدب الوبائي، ومن ثمّ خبا إلى حد ما: أدب مرض الإيدز.

في مسرحية “جون جواري” “ست درجات من التباعد”١٩٩٠، وهي كوميديا مُتشابكة، تتمحور حول فكرة تقارب جميع البشر على الأرض، تُستَخدمُ النميمة طريقةً للسّرد: إحدى شخصيات المسرحية تشتكي كيف أنها ودائرة أصدقائها قد تحوّلوا إلى «مذياع بشري». لذلك فإنها مفارقة ساخرة فعلاً أن شخصية المحتال “بول” في المسرحية استطاعت تجنّب الإصابة بالمرض، على الرُّغم من ممارساته المتكررة للجنس غير المحمي في ثمانينات بوسطن ونيويورك. يُخبر “بول” ضحيته ومرشدته “لويزا”: «لست مصاباً به! إنها فعلاً لمعجزة. لكني حقاً لست مصاباً به».

من مسرحية “ست درجات من التباعد”

شكّل مرض الأيدز تحدياً للكُتَّاب. فمثلاً كيف لروائيٍّ مِثلي جنسياً يكتب في الثمانينات أن يتجنّب الموضوع؟

قام “ألان هولينجهرست” بذلك في روايته “مكتبة حوض السباحة “١٩٨٨، عن طريق وصفِ «الصيف الأخير» من عام ١٩٨٣، أي الفترة السابقة لانتشار المعلومات عن مرض الإيدز. يقوم “هولينجهرست” باستخدام هذا الإدراك اللاحق للمرض، لإلقاء طيفٍ حالكٍ على تصويره لـ”الهيدونية” (مذهب اللذة).

بالمقابل، كيف لكاتب أن يعالج موضوع الإيدز؟ في مقدمة مجموعته القصصية عن الفيروس “احتكار الخسارة” ١٩٩٢ اقترح “آدم مارس جونز” «نموذجاً مُعدّلاً للرواية»، فرُبما تقوم حاشية أسفل النص بمقاطعة القصة والتغطية عليها بالكامل.

بينما انتنهجت “سوزان سونتاغ” طريقاً أكثر تقليدية، وإن كان ليس أقلَّ تأثيراً، في قصتها القصيرة عن بداية أزمة الإيدز، بعنوان «طريقة حياتنا الآن»، مشبهةً انتشار الأقاويل في نيويورك وتبدّلها، بانتقال الهمسة من أُذنٌ لأُذن: «قال “ماكس” لـ”إلين” إنه في البداية كان يَخسر وزناً لا غير، ويشعُر بتوعُّكٍ خفيف، ولم يتَّصل ليحدّدَ موعداً مع الطبيب، بحسب “غريغ”، لأنه استطاع المواظبة على عمله بإيقاعٍ شبه طبيعي، إلا أنه توقّف عن التدخين، تُشير “تانيا”، مما يعني أنه كان خائفاً، ولكنه أراد أيضاً، ربما أكثر مما كان يُدرك، أن يكون بصحة جيدة، أو على الأقل أكثر صحة، أو ربما فقط أن يستعيد بعض الوزن، تقول “أور”».

تم بناء قصة “طريقة حياتنا الآن” بأكملها تقريباً على مُكالمات هاتفية، فلا تحصل الثرثرة والنميمة في المقاهي أو عند زوايا الشوارع، كما كان الحال في أعمال “ديفو” و”ديكنز”، وإنما بين أشخاص كُلٌّ في غرفة معيشته الخاصة. «لم أقضِ بعمري كل هذه السّاعات الطويلة أتحدّث على الهاتف!»، يتذمّر “ستيفان”، أحد الشخصيات. بينما يقول “لويس”: «أخشى الرد عندما يرن الهاتف، لخوفي من أن أحداً سيخبرني بمرضِ أحدٍ آخر».

ولكن في حين تؤمّن التكنولوجيا، التي تشابه الأوبئة بسرعة وسهولة الانتشار، مادَّةً مجازية مفيدة لسرد قصة عن تناقل فيروس، فإن ما توفّره لنا في الواقع هو العيش المتباعد “المعزول ذاتيّاً”. لذا بالرغم من أن طريقة انتشار الفيروس تشبه الشبكة إلى حد ما، إلا أن هذا كل ما في الأمر! في بعض الأحيان، المجاز في الواقع مجرّد مجاز.

 

المصدر:  New Statesman

ليو روبسون: ناقد أدبي وثقافي، يكتب في عدد من المواقع والمجلات الثقافية الناطقة بالإنجليزية، مثل “New York Review” ، “New Yorker،”New Statesman

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.