ما كان الوضع في شمال وشرقي سوريا خلال سنوات الحرب السورية، بأكثر دقة وحساسية مما هو عليه الآن، فبعد سنوات من الانتصارات المتتالية منذ إعلان الإدارة الذاتية، وتوسيع رقعة سيطرة قواتها العسكرية (وحدات حماية الشعب، ولاحقاً قوات سوريا الديمقراطية) لتشمل مناطق شاسعة من الجغرافيا السورية، ناهزت الثلث، إلى الدخول في مرحلة الحلم الفيدرالي الذي كان علامة فاصلة، أرخت لهزائم خلال السنوات الثلاث الماضية، يُخشى أن تمتد إلى ما تبقى من مناطق سيطرة (قسد) في شرقي شرق الفرات، حيث باتت تسابق الزمن لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ولملمة ما تبقى من سلطتها على مناطق الإدارة الذاتية.

تبدو العلاقة بين (قسد) وبالتحديد وحدات حماية الشعب الكُردية، وبين حزب العمال الكُردستاني، حساسة للغاية، فـ “الوحدات” كجزء من منظمة مجتمعية وعسكرية وأمنية وسياسية ونسائية، تحت مسمى “حركة المجتمع الديمقراطي” تدور في فلك التنظيمات التي تستمد إيديولوجيتها من نظريات زعيم حزب العمال الكُردستاني عبد الله أوجلان الذي قاد نضالاً عسكرياً ضد الجيش التركي منذ عام 1984 إلى غاية اعتقاله في كينيا مطلع العام 1999 ويقضي مذ ذاك عقوبة السجن المؤبد في جزيرة إيمرالي ببحر مرمرة.

حركة المجتمع الديمقراطي أسست الإدارة الذاتية بناء على نظرية أوجلان الذي نادى بما أسماه “الأمة الديمقراطية” منطلقة من مبدأ “أخوة الشعوب” بين مكونات مجتمع شمال وشرقي سوريا، وعلى الرغم من الاستقرار المجتمعي بين هذه المكونات، حيث لم تشهد هذه المناطق أية حروب عرقية، إلا أن الإيديولوجيا السياسية المترافقة مع سلطة “الحركة” لاقت توجساً من جزء كبير من شعوب هذه المنطقة، فالارتباط بفلسفة زعيم حزب عابر للحدود أدخلت المناطق الكردية السورية في حسابات إقليمية هي في غنى عنها، بعد أن كان من المفترض أن تناضل بكل ما أوتيت من مسعى لكسب حقوقها مع الداخل السوري.

لا تفوّت تركيا أية فرصة كي تؤلّب الولايات المتحدة على وحدات حماية الشعب، وخصوصاً في موضوع علاقة الوحدات بـ “الكُردستاني” الذي تصنفه واشنطن في قائمة المنظمات الإرهابية منذ عام 1997، وقد استثمرت تركيا أيما استثمار رفع الوحدات الكُردية لصورة أوجلان في مدينة الرقة أثناء الإعلان عن سيطرة (قسد) عليها.

تريد تركيا أن تحارب الكُرد بشتى الوسائل، ولديها كل الرغبة في شن حروب دون وجود أي مبرر، لكنها تبحث دائماً عن ذرائع تسهل من هدفها، وترى في أعلام حزب العمال الكردستاني وصور أوجلان فرصاً ذهبية تستغلها كما تشاء.

وعلى الرغم من بعض المحاولات الخجولة من جانب الإدارة الذاتية في إيجاد فصل جزئي بين الحزب الحاكم ونظيره الكردستاني التركي، إلا أنها لم ترتق لتصبح واقعاً عملياً، ولم تبصر المحاولات النور لتسحب من أنقرة ورقة لطالما تستخدمها في حربها الدبلوماسية مع الكُرد.

مناطق الإدارة الذاتية لشمال وشرقي سوريا باتت اليوم في مرحلة حساسة للغاية، وأي تخلٍ آخر للولايات المتحدة عنها؛ يعني فناء المشروع بشكل كامل، لذا فقوات سوريا الديمقراطية تحاول التعامل مع ملف “الإدارة” بغير الذي كان عليه الأمر خلال السنوات السابقة، ويمكن وضع مبادرة القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية “مظلوم عبدي” في هذا الإطار، حيث يرعى حواراً بين حزب الاتحاد الديمقراطي وحلفائه من جهة والمجلس الوطني الكُردي من جهة أخرى، رغم أن ما بين الطرفين «ما صنع الحداد».

الظروف الاقتصادية الخانقة التي تعاني منها مناطق الإدارة بحاجة إلى حكمة في التعامل مع هذه المستجدات، فالدخول في دوامة فوضى ناتجة عن ثورة جياع هي إحدى أكبر التحديات التي من الممكن أن تواجه “الإدارة” خصوصاً وأن تركيا، من المتوقع أن تتدخل في مساعي زعزعة الاستقرار الحاصل في المنطقة، وتحصل على ما تريد بتأجيج الداخل، ما عجزت عنه في الحروب العسكرية.

يتعامل حزب العمال الكُردستاني مع خياراته بطريقة  براغماتية بحتة، فعلى الرغم من العلاقة القوية عسكرياً بين حليفه السوري قوات سوريا الديمقراطية وبين التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، إلّا أن حزب العمال لم يتخلّ عن علاقته المتميزة مع روسيا، والتي بدورها لم تسر في الركب التركي القاضي بتصنيف “الكردستاني” كمنظمة إرهابية، وهو ما يمكن البناء عليه في مقاربة (قسد) للحالة السورية.

حيث من المستحسن أن تتعامل مع ملف التحالف مع القوى الكبرى وفق قاعدة عدم استعداء أي طرف دولي، وتجنب وضع البيض الكردي كله في سلة واحدة، لكن في نفس الوقت؛ يجب على صناع القرار الكردي أن يتعاملوا بحكمة مع ملف العلاقة الروسية التركية، والتي لم، وربما لن، تصل إلى العلاقة الاستراتيجية، حيث تريد موسكو إعادة الاستقرار الأمني والسياسي لسوريا، وهو ما لا يمكن تخيله مع حلفاء أنقرة، وبالتحديد جماعة الإخوان المسلمين وذراعها العسكرية فصيل فيلق الشام، وكذلك حلفاء أنقرة غير الرسميين كالفصائل الراديكالية المقاتلة، وعلى رأسها هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً).

كما على (قسد) أن تستفيد من فرصة الوجود الأميركي في سوريا، والتعامل معه كوجود مؤقت، وعدم الرهان على بقاء القوات الأميركية لفترة طويلة من الوقت، أو السير في مسار طوباوي قاعدته فرض دعم أميركي لمشروع لا مركزي في سوريا يماثل ما حدث في كردستان العراق إبان حكم الرئيس العراقي السابق صدام حسين، وأن تدرك أن الحل يكمن بالتوافق مع دمشق، وليست بفرضها عليها، لأن البديل هو دائماً الصِدام مع التركي المتربص لكل استعصاء في حل القضية الكُردية في سوريا.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.