حَولَ بيان الاستِعلاء القومي وتَعثّر المشروع الوطني في سوريا

حَولَ بيان الاستِعلاء القومي وتَعثّر المشروع الوطني في سوريا

من غيرِ المُمكن فهم النّزوات العدوانيّة المُكرّرة تجاه قضية الكُرد في سوريا، وآخرها بيان أصدره لفيفٌ من السوريين الذين تجمعهم رابطة الاستعلاء والعداء القومي، إلا أنه من المهم أن نبحث عن جذر السلوك العدائي تجاه شعب من شعوب المنطقة والذي تكاد صفحات تاريخه تخلو من أيَّ حديثٍ عن صِدامات وثأريات كبرى بينه وبين باقي الكتل الاجتماعية العريضة المجاورة له؛ بل على العكس، يكاد التاريخ القومي الكردي يتلاشى لصالح الحضارة الإسلامية خلال القرون التي سبقت الحرب العالمية الأولى وسقوط الدولة العثمانية، باستثناء بعض اللغط الذي حصل في بداية الحرب العالمية الأولى حول مشاركة بعض الكُرد المتأثرين بالدعاية التركية في الجرائم التي ارتكبتها الدولة العثمانية بحق الأرمن الذين كانوا يطمحون للاستقلال عن السلطنة كباقي شعوب المنطقة التي عانت طويلاً من الهيمنة التركية، كالشعب العربي الذي لم يكن أمامه من خيار، إلا أن يتحالف مع البريطانيين كقوةٍ عُظمى في تلك المرحلة.

فقام الهاشميون بقيادة الشريف حسين بالثورة ضد الاستعمار التركي ونجح الشعب العربي في تحرير معظم أقاليمه، بينما لم يحالف القدر الكُرد وبقيت كبرى أقاليمهم تحت حكم المستعمر التركي حتى يومنا هذا.

راحت الأقاليم العربية ومجتمعاتها المستقلّة حديثاً عن تركيا تعمل على بناء دولها الوطنية الحديثة، لكنها ما لبثت أن أحسّت بخطر نظام الانتداب الذي شرّعته عصبة الأمم لتطبيقه بشكلٍ مُحدّد على الأقاليم التي استقلّت عن الاستعمار التركي والألماني بعد هزيمتهما في الحرب العالمية الأولى وأعلنت عصبة الأمم أن الهدف من الانتداب هو مساعدة هذه “الأقاليم التي لم تصل إلى مستوى الاستقلال الذاتي”[i].

إلا أن الأتراك أبقوا عينهم المنهزمة في الحرب، على الأقاليم العربية، فهزيمة تركيا عسكرياً لم تعني إجمالاً القضاء على الذهنية الاستعمارية، وتنبّهت تركيا الاستعمارية للمخاوف العربية تجاه الانتداب، وكان لابد من تغذية هذه المخاوف في مواجهة طموح الدول الغربية للسيطرة على قلب العالم العربي، وبدأ العمل على تغذية الفكر القومي العربي كأسهل الوسائل التي من شأنها عرقلة تطوير فكرة الدولة الوطنية من خلال تكريس فكرة أن الدولة الوطنية ليست سوى “نزعة إقليمية انعزالية ستعوق رصّ الدول العربية في جبهة موحَّدة معادية للإمبريالية” وكان لابد من أدوات لترسيخ هذه الأفكار التي تعيق تطور الكيانات الوطنية الناشئة حديثاً وتعرقل المشاريع الاستعمارية الغربية وتبقي هذه الكيانات في حالة من الفوضى وعدم الاستقرار إلى أجل مؤاتٍ، وكان أبرز من أسسوا لعرقلة المشاريع الوطنية هم من عرفوا برواد “الفكر القومي العربي” الذين استغلوا بمهارة أحوال الشعب العربي الخارج للتو من هيمنة الاحتلال التركي، والمحكوم بالقلق تجاه هواجس الانتداب الغربي، والمُتحمّس لأي أفكار تُنسيه وطأة قرون من التبعية لتركيا وتمنحه الشعور بوجوده.

وقبل دخول الفرنسيين إلى دمشق عام ١٩٢٠، غادر الملك فيصل سوريا بهدف تقديم احتجاج لدى عصبة الأمم تجاه سلوك فرنسا، وكان وزير المعارف ساطع الحصري ضمن أعضاء الوفد المرافق المتجه إلى سويسرا، إلا أن الملك فيصل وبعد أن رست مركبه في إيطاليا “ونظراً لإتقان الحصري للغة التركية وعلاقاته القوية مع زعماء تركيا طلب من الحصري التوجه إلى استانبول لطلب الدعم العسكري من حكومة كمال أتاتورك بهدف الضغط على الفرنسيين الذين رفضوا تنصيب الملك فيصل على عرشِ سوريا” [ii].

كان ساطع الحصري أحد أبرز الداعين إلى فكرة القومية العربية ومن المهم تناول مسيرته كأحد أبرز المناهضين للدولة الوطنية ليس فقط في سوريا وإنما في عموم المنطقة، حيث تمكّن من التنقّل في مهام ووظائف حساسة بين سوريا والعراق ومصر بعد أن كان وزيراً للمعارف في سوريا، حيث انتقل مع الملك فيصل الذي صار ملكاً على العراق.

ومن أبرز مآثره، أنه رفض مقترح الملك فيصل “بتأسيس مدارس خاصة لكل طائفة وقومية في العراق وأصرّ على منهاج قومي عربي واحد عابر لكل الأديان والطوائف والعرقيات” [iii] الأمر الذي أسّس بذلك للاحتقان الطائفي والقومي الذي تطوّر في مراحل لاحقة من تاريخ العراق، ليتّخذ شكل صراع دامي وفوضى لا تنتهِ بعد أن كان العراقيون على وشك التخلص من الأمراض الطائفية إبّان ثورة العشرين التي وحّدت العراقيين أمام الانتداب البريطاني، ما “دفع المثقفين العراقيين لاتهام ساطع الحصري بالعمالة للإنكليز” [iv] لكن الفصل الطائفي الذي أدت إليه إجراءات الحصري في العراق تنسجم بشكل أوضح مع الطموحات الاستعمارية لتركيا.

غادر العراق بعد انتهاء الحقبة الملكية في عام ١٩٤١ عائداً إلى سوريا بصفة مستشار لوزارة المعارف، وبدا يعمل على إعادة هيكلة المناهج التربوية بما يتناسب مع فكرة القومية العربية وحارب فكرة تعليم اللغة الفرنسية في المدارس السورية، بهدف عزل سوريا وقطع الطريق عليها أمام أي اتصال ثقافي مع العالم الغربي، وتبدو ملفتةً قدرته على التنقل بسهولة بين مراكز القرار في العواصم الرئيسة آنذاك، وكأنه مبعوثٌ رسمي يعمل دون كلل لعزل العالم العربي ومحاربة أيّة نزعة وطنية في الدول العربية، إذ انتقل بعد ذلك إلى مصر في عهد الرئيس جمال عبدالناصر الذي عيّنه عميداً لمعهد الدراسات العربية العليا، فراح الحصري المدافع عن الملكية في سوريا والعراق ينتقد المرحلة الملكية في مصر كترجمة لسلوك وصولي انتهازي هدفه الحفاظ على مرضاة الرئيس عبدالناصر.

وبدأ “حربه القومية ضد المثقفين المصريين الداعين للنهضة الوطنية في مصر، واصطدم مع المفكر المصري المعروف طه حسين الذي كان متصالحاً مع فكرة تأثّر المجتمع المصري تاريخياً بالثقافة الفرعونية، وابتكر الحصري نظريته التي اعتبر فيها أن اللغة الفرعونية هي ذاتها اللغة السريانية واللغة السريانية مشتقةٌ من العربية، وأن الأقباط المصريين أبناء طائفة دينية وليسوا أبناء ثقافة لها خصوصيتها”[v]، وكانت مثل تلك الاستنتاجات كافية من وجهة نظره لإقناع المصريين بالتخلي عن فكرة الدولة الوطنية، وكان من المتوقَّع أن تغمر السعادة المواطن العربي عند سماعه أفكار الحصري التي تتحدّث عن وحدة بلاد العرب وتحوّل العرب إلى قوة جغرافية وسكانية لا تُقهَر، خصوصاً وأن ملايين العرب المعاصرين للاحتلالات والانتدابات كانوا على استعداد لتقديم ولاء غير مشروط لأي أفكار في صيغة وعود غير مباشرة لتحقيق أحلامهم الكبرى، وبمهارة ودراية استحوذت أفكار ساطع الحصري على مخيلة جيل كامل من المتعلمين والمثقفين العرب ونجحت هذه الأفكار بشكل فائق في عرقلة مسار تاريخي مهم من حياة المجتمعات العربية التي لايزال مثقفوها يختلفون حول مكان ولادة أحد أهم مؤسسي الحركة القومية العربية، “حيث يعتقد البعض أنه ولد في صنعاء عام ١٨٨٠ بينما يرجّح البعض ولادته في استنبول ويشكك آخرون في نسبه الحلبي”[vi].

إلا أن ما يدعو للدهشة هو أن جميع المصادر التاريخية تتفق على أن الحصري “وخلال الحرب العظمى، كان مديراً لدار المعلمين في إستانبول وكان من المدافعين عن الدولة العثمانية وما لبث أن دفعته انتهازيته للتحالف مع جمعية الاتّحاد والتّرقي الحاكمة بعد أن برزت كقوةٍ رئيسة في تركيا ومن ثم أطاحت بالسلطان عبد الحميد الثاني عام 1909 وكانت نزعته تركية بحتة! وله عدة مقالات في الدعوة إلى التتريك في مجلة “تورك أوجاني”[vii] .

وتؤكّد المصادر أن الحصري لم يكن يتحدّث العربية بطلاقة عند مجيئه في سن الأربعين من تركيا إلى سوريا عام ١٩٢٠ وجميع المصادر تؤكّد ولاءه العثماني ودوره في الدفاع عن سياسة التتريك، وهو صاحب فكرة أن “لا أمل بتكوين وحدة من البلاد الإسلامية التي تتكّلم بلغات مختلفة. دون تكوين وحدة من البلاد التي تتكلّم بلغة واحدة، ولا سيما التي تتكلم بلغة القرآن” ، وإذا كان من غير المعقول التصديق بأن أهم مناهضي الفكر الوطني كان يعمل لصالح تركيا فلابد إذاً من التسليم بأنه يُمثّل دون منازع أحد أهم رموز الانتهازية في عصره، وفي كل الأحوال فقد أغرقت أفكار ساطع الحصري المثقفين العرب في بحرٍ من الأوهام المستقبلية التي لم تحل مشكلة الفقر في العالم العربي ولا مشكلة البطالة أو الأمية ولم تساهم في أي تنمية اقتصادية أو ثقافية بل أبقت المجتمع العربي في حالة استنزاف وانشغال بقضايا صراعية سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي.

ورغم انتهاء عصر هذه الرموز إلا أن ما خلفوه من أفكار ظلت قائمة لتنهل منها أجيال عديدة بقيت ضالة عن مشروعها الوطني، تماماً كرهط السوريين الذين وقعوا بيانهم مستنكرين فيه تحرك الأطراف السياسية الكردية للتفاهم حول رؤية مشتركة لمستقبلهم الوطني في سوريا، ممتثلين في بيانهم لنزوات الاستعلاء القومي العربي التي غرسها فيهم أمثال الحصري الغامض والمُتّهم بارتباطه بتركيا التي تتحكّم اليوم بشكلٍ صريح بملفات المعارضة السورية التي ينتمي إليها معظم ذلك الرهط من الموقّعين على البيان الموجّه بالأساس للفرنسين والأميركيين بما ينسجم مع المزاج التركي، فلا تختلف مقدمات بيانهم للتعامل مع القضايا الوطنية عن مقدمات مؤسس العقل الذي يحملونه ولن تختلف النتائج في المحصلة على صعيد النهوض بالكيان الوطني.

وبالإمكان القول بأن مجموعة البيان العدائي تجاه الكرد يرتبط أفرادها إما مباشرةً بالمصالح التركية أو بشكلٍ غير مباشر عبر الارتباط بتخرّصات الفكر القومي الذي بدأ بتأسيسه أحد التابعين لتركيا كساطع الحصري، ما يعني أن التبعية لتركيا مستمرة والكذب على المجتمع العربي مستمر، فبينما لعب هؤلاء دوراً رئيساً في تأخير النهوض بالمشروع الوطني، نراهم يخبؤون تبعيتهم خلف شعار المواطنة الذي يستخدمونه بطريقةٍ انتقائية عندما يتعلّق الأمر بقضية التعدّد القومي في سوريا، بينما يمكن رؤية الانعكاس الحقيقي للمواطنة التي يدعونها من خلال متابعة السلوك الميداني لهؤلاء المعارضين والمجموعات المسلحة المرتبطة بهم في مناطق إدلب، عفرين، رأس العين وتل أبيض حيث التهجير الممنهج بحق الكُرد واستخدام مفردات الخطاب السياسي التركي المعادي للقومية الكردية وتالياً رفع العلم التركي فوق الأراضي السورية بذريعة الخطر الكردي في سلوك تماهى بشكلٍ مُطلق مع ذهنية الوصي التركي، وإن كانوا قد أقنعوا قلة من الكُرد اليوم للاشتراك معهم في موقفهم، فهؤلاء لا يختلفون عن قلة الماضي المشاركة في الجرائم التركية بحق القومية الأرمنية.

الواقع على الأرض في سوريا، لا يشبه أبداً خطاب تلك المجموعة التي رفض معظم أفرادها العيش في ظل المواطنة التي تفرضها العصابات المسلحة في إدلب وعفرين، والواقع أن التضحيات التي يتحدثون عنها تم توظيفها لخدمة الصراع الطائفي، ورغم غياب التأثير الميداني والسياسي للتيارات الوطنية السورية المؤمنة بسوريا كوطن حقيقي ونهائي، إلا أن الخيار الوحيد لإنقاذ سوريا وتحقيق التغيير الديمقراطي هو أن تتنادى القوى الوطنية المؤمنة بالهوية السورية وأن تستعيد الثقة بذاتها عبر بذل جهود كبرى وحقيقية لاسترجاع الحالة الوطنية السورية واستعادة القرار السياسي الوطني المرتهن وإزاحة تلك الزمر التي تتاجر بصورة رخيصة بتضحيات السوريين في البازارات الإقليمية.

وكما لعبت تركيا دوراً في إضاعة الفرصة على العراقيين لتجاوز اختلافاتهم الطائفية والعرقية إبان ثورة العشرين، فقد أضاعت الفرصة على السوريين أيضاً إبان ثورتهم السلمية عام ٢٠١١ من خلال سياسة الفصل الطائفي التي تحفظ لتركيا فرصها في فرض حضورها كدولة مستعمرة عبر أدوات محلية مرتبطة بها ومتماهية معها كالثلة التي تبنّت بياناً يستهدف المكون الكردي في سوريا والتي لا تختلف عن “الحصري” في انتهازيتها أو ارتباطها بالمصالح التركية لدرجة الذوبان في تبنّي قيم ومثل الدولة التركية، ويرى هؤلاء في ذلك التّقرّب وهذا التّبني حلاً لمأزقهم القومي ويبذلون طواعية كل جهد ممكن في هذا السبيل مُتنكّرين لمصالحهم الوطنية الحقيقية ومدركين جيداً أنهم “لم يعودوا يقتنعون في دخيلة نفسهم بشعارات مثل المساواة والمشاركة والعدالة والديمقراطية والإخاء” [vii] التي ينادون بها ويدّعون القتال لأجلها، وباتوا دون وعي منهم الضحية الأكثر قرباً وتعلّقاً بالجزار.

لقد صار هؤلاء مثالاً للكائن “الذي فقد هويته وأضاع أصالته ووجد نفسه عارياً أمام غربته عن نفسه، وهو يحاول بشتى الأساليب ومن خلال مختلف الأقنعة أن يجد هوية بديلة وأن يحصل على وهم الوجاهة” [vii].


[i] “صحيفة النيويورك تايمز, عدد خاص في العام 1922, عنوان المقال “ITALY HOLDS UP CLASS A MANDATES; League Council Has Failed to Meet Her Views Regarding Palestine and Syria. BULGARIA GETS A REBUFF Her Appeal for Aid to Check Border Forays Is Sent Back to theBalkan Powers.”
[ii] ساطح الحصري, يوم ميسلون، ص 160-161
[iii] ساطع الحصري، مذكراتي في العراق، الجزء الأول، ص 147
[iv]عبدالخالق حسين, دور ساطع الحصري في ترسيخ الطائفية في العراق, 2010 (الحوار المتمدن)
[v] جورج معمارية, دراسة نقدية لكتاب “العروبة بين دعاتها ومعارضيها” ساطع الحصري, 2020
[vi] عبدالخالق حسين, دور ساطع الحصري في ترسيخ الطائفية في العراق, 2010 (الحوار المتمدن)
[vii] عبد الغني العطري. أعلام ومبدعون، ص 98-103٠
[viii] مصطفى حجازي, التخلف الاجتماعي مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور, 2005,

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.