هل ارتداء الأقنعة السوداء عمل عنصري؟ وهل يجب منعها في العروض المسرحية، التي يعتبر ارتداء الأقنعة عنصراً أساسياً من عناصرها، ظهر منذ نشأة المسرح نفسه؟ وإلى أي درجة يمكن أن نتدخل في الطقوس والعادات الاجتماعية والثقافية والدينية القديمة، بسبب وجود ممارسات “عنصرية” فيها، أو لأن البعض يقوم بتأويل هذه الممارسات بشكل عنصري؟ باختصار ما هي حدود تأويل العنصرية في الحقل الثقافي؟

في هولندا، ومع بداية فصل الشتاء، يعود مثل هذا النقاش للاحتدام مع الاحتفال بيوم “القديس نيكولاس”، في السادس من كانون الاول/ديسمبر من كل عام، حين يرتدي عديد من الهولنديين ملابس وأقنعة تشبه مساعده “بيتر الأسود”، الأمر الذي يلقي انتقادات حادة، واحتجاجات من قبل مناهضي العنصرية، لأن ارتداء هذه الملابس والأقنعة السوداء، برأيهم، يشير الى تاريخ طويل من العبودية، ويحرّض على الكراهية.

الهولنديون حاولوا مع الوقت تلطيف هذه العادة، لتبقى طقساً احتفالياً بحتاً، فصَوّروا “بيتر” بوصفه شخصاً طيباً، صار لونه أسود بسبب مروره في المداخن، التي يعبرها في طريقه إلى الأطفال، ليوزع عليهم الحلويات والهدايا. مناهضو العنصرية من جهتهم يقولون إنهم «يحترمون التقاليد والتغيير في الآن ذاته»،  ويمكن لذلك استبدال اللون الاسود بألوان متعددة.

 

لعبة الأقنعة

في العام الماضي وقع خلاف مشابه بين طلاب من جامعة “السوربون”، كانوا بصدد عرض مسرحية “أنتيغون”، وهي من كلاسيكيات المسرح اليوناني القديم، وبين ناشطين مناهضين للعنصرية، ومدافعين عن حقوق السود، وذلك بعد نشر صور من بروفات المسرحية على موقع الجامعة، تُظهر ممثلين بيض يرتدون أقنعة لوجوه سوداء. وفي يوم العرض المفترض، تظاهر عدد من النشطاء، وتمكّنوا فعلاً من منع العرض.

تضاربت الآراء بين الطلاب والنشطاء، بين من اعتبر ايقاف العرض هجوماً خطيراً على الحرية الفنية، ومن رأى أن العنصرية ليست مجرد أيديولوجيا لليمين المتطرف، بل يمكن رصدها في كثير من المؤسسات الاجتماعية والثقافية. حاول القائمون على العرض توضيح أن الممثلين سيرتدون أقنعة سوداء وأخرى بيضاء، كما كان يحدث في المسرح اليوناني القديم، وأنهم أرادوا من هذا إظهار تأثّر المسرح اليوناني بالثقافة الإفريقية، ومن طبيعة المسرح أن يقوم  الممثلون بتقديم أدوار وهويات جديدة مختلفة عنهم.

رئيس الجامعة قال إنه «لا يستطيع تفهّم هذا الاتهام بالعنصرية. ولن تسمح هذه الطريقة بالحكم على الأمور للفنانين بالتعبير عن أنفسهم بحرية بعد الآن». أما مخرج العمل فعبّر عن صدمته من حدة الانتقادات، لأن «المسرح دائماً ما يكون عابراً للثقافات وناقلاً لهويات الناس»، حسب تعبيره، خاصة أنه، في هذا العمل تحديداً، أوكل لبعض الممثلين الذكور القيام بأدوار النساء، أي تماماً كما كان يحدث في المسرح الكلاسيكي.

 

الحضارة و”الاستيلاء”

تتم مهاجمة كثير من العادات والتقاليد والأفعال، في السنوات الاخيرة، بحجة العنصرية والاستيلاء الثقافي، مع أن الحضارة الإنسانية تطورت تاريخياً عن طريق تفاعل الثقافات، سواء بطرق سلمية أو غير سلمية. استعارة ثقافة ما، سواء كانت “مسيطرة” أو “خاضعة”، لعناصر من ثقافات أخرى، وإعادة توطينها وادماجها في بناها الرمزية، لم يتوقف يوماً. قد تؤدي مكافحة “الاستيلاء الثقافي” إلى نوع من السيطرة الثقافية على الفن والتقاليد وتواصل الناس، تحدّ من حرية التعبير، وتعزل الثقافات عن بعضها البعض. فمن غير المنطقي أن تعيّن الثقافات حراساً على عاداتها وتقاليدها، وتمنع الاخرين من الاستعارة منها. هل تأثر فنانين، من ثقافات مختلفة، بموسيقى الجاز، التي ابتكرها السود الأمريكيون، وتحوي عديداً من الايقاعات الأفريقية، يعتبر استيلاءً ثقافياً؟ ألم يسهم هذا التفاعل في تطور الموسيقى بشكل عام؟ ولماذا لا يمكن إسقاط هذا النوع من التفاعل على المجالات الاخرى؟ ربما من حسن الحظ أن موسيقى الجاز ظهرت قبل انتشار مبدأ “مكافحة الاستيلاء الثقافي”.

حتى الثقافات التي تعتبر “ضعيفة” أمام ثقافات معينة، هي نفسها “قوية” أمام ثقافات أخرى. هل ثقافة الأميركيين من أصول أفريقية “ضعيفة” أمام الثقافات التقليدية للدول الإفريقية؟ وألا تقوم بعمليات “استيلاء ثقافي” دائمة منها؟

محاربة هذا التفاعل سيحدّ فعليا من التطور الثقافي، ويتحكم سلباً بالتواصل الانساني والاجتماعي والتجاري. وهو أمر يستحيل ضبطه في ظل العولمة، كما أن هذا التدخل في عادات وطقوس قديمة، صارت جزءاً رئيسياً من حياة الناس، لا بد أن يخلّف الكراهية والخلافات، وقد يساهم بصعود الحركات اليمينية.

 

 توسيع مفهوم “العنصرية”

كثير من  الناس يستنكرون العنصرية، ولو لفظياً، حتى بعض المتطرفين يرفضون تسميتهم بالعنصريين،  وقد يكون غالبية الناس ممارسين للعنصرية بشكل من الأشكال، وضحايا لها في الوقت نفسه. رغم هذا لا بد من التمييز بين العنصرية المؤسساتية والسياسية، وبين التفاعلات اليومية، على مستوى اللغة والعلاقات الاجتماعية. فمع القدرة الجامحة على التأويل، التي يتمتع بها بعض مكافحي العنصرية، يتمّ كثيراً اسقاط الاتهامات بالعنصرية على الخلافات الشخصية، أو على قضايا لا تمتّ للعنصرية بصلة.

هذا لا يعني أن تصرفات البشر “بريئة” دائماً، فالتمييز يحدث لأسباب تتعلق بالسلطة، أو على أساس الاختلاف الاجتماعي والتعليمي، أو مستوى الدخل، لكن لا يمكن المساواة بالمسؤولية بين العنصرية الممنهجة، وبين أفعال وأقوال لأشخاص عاديين، وتحميل الجميع مسؤولية متساوية لما يجري.

قد لا يكون توسيع مفهوم العنصرية، كما يحدث هذه الأيام، مفيداً لمكافحتها، فعندما يُتهم الجميع بالعنصرية، ستفقد التهمة معناها، ودلالاتها القانونية والسياسية، وتصبح أشبه بشتيمة يتقاذفها الناس عند أول خلاف. لا، لسنا جميعاً عنصريين!

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.