حقق الكُرد في شمال شرقي سوريا شهرةً عالمية لبسالتهم في محاربة تنظيم #داعش، لكنهم اليوم يواجهون كارثةً مُدمِّرة قد تضع حياة ملايين السكان في خطر.

وتتمثل هذه الكارثة بالتلوث الذي يسببه النفط الخام المتسرب من الأنابيب المتهالكة وكذلك النفايات النفطية، التي تسبب مرض السرطان، الملوثة لمياه الأنهار والجداول في منطقة الإدارة الكردية، والتي يقطنها حوالي أربعة ملايين شخص ويتواجد فيها معظم النفط المتنازع عليه في سوريا.

وعندما تفيض الأنهار، كما حصل في شهر نيسان الماضي، فإنها تنشر تلك السموم على المحاصيل الزراعية. كما أن آلاف مصافي تكرير النفط البدائية تطلق أدخنتها السامة في الهواء فتلوّثه.

وقد أخفقت الصور البائسة للأراضي المحترقة والمياه الملوّثة بالسواد في إحداث أي تأثيرات، حيث أغلقت بعض المصافي المؤقتة نتيجة للاحتجاجات المتفرقة  لتعمل في أماكن أخرى.

ويقول السكان المحليون في المناطق المتضررة، والذين طلب جميعهم عدم الكشف عن هويتهم خوفاً من السلطات، خلال اللقاءات التي أجرتها معهم صحيفة المونيتور عبر الهاتف، أن الأمراض في تزايد، بما في ذلك السرطانات. وما هذا إلا إشارة واضحة عن مدى كون المشكلة عصيّة.

ويقول صيدلي من الريف الشرقي لمحافظة دير الزور، حيث تنتشر مصافي تكرير النفط البدائية: «بدأت الأمراض، التي اختفت من قبل، بالانتشار مجدداً في مناطقنا. العيوب الخلقية والتهاب السحايا والالتهابات الجلدية والأمراض التنفسية الحادة، تنتشر في جميع أرجاء المحافظة، إلا أنها أكثر شيوعاً في المناطق التي تحتوي على آبار النفط».

ويتابع قائلاً: «أنا ابن المنطقة، محاصيلنا الزراعية التي نحصدها اليوم فظيعة بالمقارنة مع ما كانت عليه قبل عشرة أعوام. لقد تقلصت المساحات الخضراء وماتت معظم الأشجار بسبب تلوث التربة والهواء».

من جهته، يقول الباحث والصحفي “محمد خلف”، من محافظة دير الزور، وهو اسم مستعار، واصفاً عملية تكرير النفط البدائية: «تنبعث روائه كريهة من مصافي تكرير النفط البدائية التي تتسبب بحدوث أمراض وإلحاق أضرار بالبيئة وصحة البشر والحيوانات والنباتات».

ويضيف: «ملأت خزان الماء الخاص بمنزلي ونسيت تغطيته. وعندما استيقظت صباحاً وجدت سطح الماء كله ديزل. تخيل أنه في بعض الأحيان توجد سحابة سوداء خلال النهار تغطي سماء دير الزور بالكامل، إنها أشبه بالسحب السوداء».

وإن كان بالإمكان معالجة مسألة مصافي التكرير المتفرقة من خلال الرقابة المُحكمة، فإن التلوث الناتج عن  الأنابيب المتهالكة وبقع النفط والنفايات المُلقاة في الأنهار، سوف تؤثّر على صحة الإنسان والحيوان لعقود قادمة.

وبينما يجتمع المانحون الغربيون في #بروكسل لمناقشة المساعدات المقدمة إلى #سوريا، من غير المحتمل أن تجد الأزمة البيئية المرتقبة في شمال شرقي سوريا؛ مكاناً لها على جدول الأعمال. ولم يستجيب “عبد الكريم ملك” وزير الطاقة في الإدارة الذاتية، للطلبات المتكررة للصحيفة. كما لم يرد “جوزيف لحدو”، وزير البيئة في الإدارة المذكورة، على طلب الصحيفة.

الضغط من أجل الحفاظ على الاقتصاد الهش للإدارة الذاتية، والذي يعتمد إلى حدٍّ كبير على العائدات النفطية المتضائلة بشكل مستمر، إلى جانب الطبيعة المشحونة لعلاقات هذه الإدارة مع دمشق، يتسبب في أن يتم التعامل بشكل فوضوي مع النفط الخام وتكريره بطرقٍ بدائية.

وفي شهر تشرين الثاني من العام 2019، قال الرئيس الأميركي #دونالد_ترامب أنه أمر عدة مئات من القوات الأميركية بالبقاء في شمال شرقي سوريا لـ «تأمين النفط» ومنع إيرادات مبيعه من الوصول مجدداً إلى خزائن تنظيم داعش.

وكان ذلك في مواجهة الضجة التي تسببت بها عملية “نبع السلام” التركية ضد #قوات_سوريا_الديمقراطية المدعومة من #الولايات_المتحدة، إلا أن المسؤولين الأميركيين لم يُعلّقوا بعد على آثار الإنتاج غير الآمن للنفط في المنطقة والتي تهدد حياة البشر والنباتات والحيوانات على حد سواء.

وأكد مسؤول رفيع في الإدارة الذاتية للمونيتور، شريطة عدم الكشف عن هويته، أن الولايات المتحدة لا تقدم أي دعمٍ مادي أو تقني للمساعدة في معالجة المشكلة.

ويقول: «تعهّد الرئيس ترامب بحماية المنشآت النفطية، ونحن ممتنون له. وبالتأكيد ليس من مسؤوليتهم التكفل بالإنتاج ومشاكله. ولكن إذا ما كانت هناك أية مساعدات في هذا الخصوص، فسوف تكون موضع ترحيب».

كما أكد المسؤول المذكور أن الإدارة الذاتية «أصدرت قانوناً بإيقاف المصافي غير القانونية، إلا أنه كان هناك تساهل في تنفيذ القانون بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة».

من جهتها، رفضت وزارة الخارجية الأميركية الرد على طلب المونيتور التعليق على الموضوع.

نهر الموت

عُرِض تقريرٌ، تقشّعر له الأبدان، لمنظمة PAX الهولندية غير الحكومية لمحة نادرة عن آثار التسرب المستمر للنفط من منشأة تخزين كبيرة والتي تبعد 15 كيلو متراً جنوب غربي منطقة #ديريك، والتي تعود لشركة النفط السورية التابعة للدولة.

حيث تجمّع هذه المنشأة كل النفط الخام المنقول عبر خط أنابيب يمتد مباشرة من حقول #الرميلان النفطية والمحمية من قبل القوات الأميركية. وبالعودة إلى صور الأقمار الصناعية، تعقبت PAX التسرب من المنشأة المسماة #كر زيرو، والذي بدأ في صيف العام 2013.

وأشار التقرير، إلى أن الخزانات المفتوحة بدأت بالتسريب حول المنشأة، وتحوّل جزءٌ كبير من أراضي المنشأة إلى اللون الأسود وكأنما سكب النفط عليها.

وأظهرت صورٌ للأقمار الصناعية التُقِطت أيلول 2014 أنه تم حفر قناة لتصل المنشأة بنهر محلي، حيث يرجح أن هذه القناة تعمل كنوع من الصمامات لتخفيف ضغط النفط المسكوب في الموقع.

ولم يكن لدى السلطات المحلية على ما يبدو الموارد أو القدرات الكافية للتعامل مع المعضلة. ووصلت النفايات إلى جدول صغير يتدفق جنوباً إلى وادي #الرميلة، وهو أحد روافد نهر (وادي عوارض) الموسمي الذي يمر عبر ثلاثين قرية ليصل إلى #نهر_الفرات.

وفي لقاء هاتفي للمونيتور مع رئيس برنامج نزع السلاح في PAX، وهو أيضاً أحد المشاركين في إعداد التقرير الذي يحمل عنوان “نهر الموت”، أوضح الأخير بأن «التلوث لا يزال مستمر وكذلك التسرّبات».

وأشار إلى تقديرات نسبية تفيد بأن عشرات الآلاف من براميل النفط والمياه الملوثة؛ أطلقت في الأنهار، وأنه إذا ما لم يتم إيقاف ذلك قريباً، فسوف يسوء الحال ليصل إلى كارثة بيئية تهدد حياة آلاف العائلات في المنطقة. وقد ورد في التقرير المذكور أن سيدة من المنطقة ألقت باللائمة على التلوث في تسببه بسلسلة من حالات الإجهاض.

ويفترض “سمير مدني”، مؤسس مشارك في موقع tankertrackers.com، وهو موقع مختص بتعقب عمليات تخزين وشحن النفط الخام، أن التسريبات لربما استمرت لمدة 730 يوماً على الأقل.

وأضاف “مدني”، الذي شارك مع PAX في إعداد التقرير، خلال لقائه الهاتفي مع الصحيفة، أنه مع تجميع ما يقدر بنحو 60 برميلاً من النفط الخام يومياً في المنشأة، ربما يصل عدد البراميل المخزنة إلى 50 ألف برميلاً الآن. وهذا التسرب لا يزال مستمراً ويتدفق عبر المنطقة.

كما سالت موجةٌ جديدة من النفط الخام عبر الحقول والقرى في #الرميلان في شهر آذار الماضي جراء انفجار في شبكة خطوط أنابيب متهالكة في المنطقة. وقد شق النفط طريقه نحو الأنهار القريبة متسبباً بتلويث ما لا يقل عن 18 ألف متر مربع من الأراضي في قرية #خراب_أبو_غالب وما حولها.

وتُضاعِف الفيضانات الموسمية من المشكلة، حيث غمرت المياه الملوثة بالنفط في شهر نيسان الماضي ما يزيد عن 80 ألف هكتار من الأراضي الزراعية في منطقة #تل_حميس في محافظة #الحسكة، كما غمرت هذه المياه أيضاً 20 ألف هكتاراً في #الجزعة في الحسكة و10 آلاف هكتار في الرميلان.

ويقول أحد أهالي الجزعة، متأسفاً: «في الماضي، كان النهر يُستخدم من قبل الأهالي في ري حقولهم. أما اليوم وبسبب النفط، لم يعد يستخدم للري. بالنسبة للسلطات، فقد كانت البلدية موجودة هنا ورأوا ما يحدث.

تحدثنا إليهم، إلا أنهم لا يمتلكون القدرة على حل المشكلة من أساسها. كل ما قاموا به هو إرسال جرافة لإقامة حواجز ترابية. وقد رفعوا الحواجز على جانبي النهر، لكن هذا ليس حلاً.

وبحسب “حسن بارتو”، خبير بيئي في برنامج البيئة للأمم المتحدة (UNEP)، فإن المخاطر البيئية والصحية التي يتسبب بها التلوث النفطي في شمال شرقي سوريا «تفوق بكثير تلك التي تمت مواجهتها في #العراق في أعقاب استهداف التحالف، لأصول النفط التي كانت خاضعة لسيطرة تنظيم داعش حينها. كما أن إصلاحها أصعب بكثير، خاصة أن نطاق المشكلة وتأثيراتها العامة لا تزال دون تقدير».

«كان سبب التلوث النفطي في العراق إلى حد كبير نتيجة التخريب الذي قام به تنظيم داعش أثناء عملية انسحابه القسرية»، يقول “بارتو” للمونيتور عبر البريد الإلكتروني.

ويضيف: «حصلت هناك حوادث تلوث كبيرة، استمرت بعضها لأشهر، إلا أنها كانت واحدة ولم تتكرر. أما الوضع في شمال شرقي سوريا، فهو أكثر تعقيداً من حيث أن التلوث النفطي مشكلة مزمنة يرجع تاريخها إلى اندلاع الأزمة منذ ما يقارب عقد من الزمن».

ويتابع: «في حالة العراق، لا تزال صناعة النفط سليمة وتحت قيادة الحكومة المركزية، بينما في شمال شرقي سوريا هناك الآلاف من مجموعات تكرير النفط الحرفي التي يصعب التحكم فيها بسبب طبيعتها الحرة والمتجولة».

وأخيراً، وعلى عكس العراق، تحدث الانسكابات النفطية «في سلة الخبز الزراعية» الرئيسية في البلاد. وتعمل شبكة التيار الكثيفة في شمال شرق سوريا كقناة تنقل التلوث النفطي إلى #نهر_الخابور، أحد روافد نهر الفرات. وهنا يلاحظ “بارتو” أنه لا توجد نهاية واضحة في الأفق أو خطة حول كيفية التعامل مع هذه المشكلة الخطيرة.

السياسة الدولية تقف في الطريق

مثلما كانت #منظمة_الصحة_العالمية مُتردّدة في التعامل مباشرة مع #الإدارة_الذاتية لمساعدتها على التعامل مع وباء فيروس #كورونا؛ خوفاً من إزعاج الحكومة المركزية في دمشق، من المرجح أن ينتظر برنامج الأمم المتحدة للبيئة دعوة رسمية من حكومة #بشار_الأسد من أجل التدخل في الشمال الشرقي لسوريا.

لكن حكومة الأسد ليس لديها اهتمام كبير بالمساعدة في إصلاح البنية التحتية النفطية ما لم يُسمح لها باستعادة السيطرة على حقول النفط.

وهو أمرٌ عززته #روسيا، حليفها الأكبر، عندما حاول مرتزقة #فاغنر تجاوز الحقول المحمية من قوات سوريا الديمقراطية في دير الزور، ليتم صدها فقط من قبل القوات الأميركية.

والعقوبات الإضافية المفروضة بموجب #قانون_قيصر تعني أنه لن تخاطر أي شركة غربية بالاستثمار في شبكة النفط السورية المتداعية، في الوقت الذي تفتقر فيه دمشق إلى الإمكانيات لتمويل الإصلاحات.

ويرى مسؤول في قوات سوريا الديمقراطية، فضل عدم الكشف عن هويته، إن الأمر سيتطلب ما يصل إلى 100 مليون دولار لإعادة حقلي الرميلان و#العمر، حيث يقع معظم النفط، إلى طاقتهما الإنتاجية الكاملة.

فقبل الحرب، كانت سوريا تنتج حوالي 380 ألف برميل من النفط الخام يومياً، بينما ويقدر الإنتاج الحالي بـ 60 ألف برميل في اليوم، معظمه من الدرجة المنخفضة.

ومع ذلك، يؤكد موظف في منظمة غير حكومية محلية أن شركة النفط السورية تواصل إرسال قطع غيار لمنشآت النفط في الشمال الشرقي إلى جانب الطاقم الفني.

وتسمح هذه الديناميكية للسلطات المحلية، بتجنّب تحمل المسؤولية عن التلوث النفطي، حيث يمكن لمكتب الإدارة الذاتية توجيه شكاوى المقيمين إلى موظفي الحكومة المركزية، الذين يمكنهم بدورهم إخبار السكان بأن يرسلوا شكاويهم إلى الإدارة الذاتية.

وقد اعترض مسؤول إداري كبير في الإدارة الذاتية على هذه الرواية، قائلاً إنه «لا يوجد موظفون يعملون حالياً في الدولة، بل بعض الفنيين والمهندسين الذين اختاروا البقاء والعمل على كشوف المرتبات المحلية». في كلتا الحالتين، ربما يكون الوجود الأميركي في منشآت النفط قد قلب الاتفاقات القائمة.

 

المصدر: (Al-Monitor)


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.