سنواتٌ عِجاف عاشتها سوريا منذ العام 2011 بعد أن عانت الأمرَّين من حكم الحزب الواحد واللون الواحد والهوية الواحدة منذ انقلاب حزب البعث العربي الاشتراكي في الثامن من آذار عام 1963 إلى يومنا هذا.

عانى الشعب السوري بكافة قومياته وأديانه وطوائفه من التمييز السلبي المتّبع بدرجاتٍ شتى، حتى تحوّلت سوريا إلى طائفتين: أقلية تجمعها مصالح السلطة استأثرت بجل مقدرات البلاد، وأكثرية تعيش على هامش، في بلدٍ لديه كل مقوّمات النهوض، والارتقاء إلى مصاف الدول المتطورة.

كان العام 2011 محطة مفصلية في حياة الشعب السوري؛ ففي حين أن قسماً لا بأس به من السوريين قرروا إحداث قطيعة مع الماضي، والسعي لبناء مستقبل آخر لبلدهم، فقد كانت التدخلات الإقليمية أكثر تنظيماً، وتدخلت في تغيير مسار الأحداث بسرعة قياسية، مستغلةً بذلك عدد من التيارات التنظيمية النشطة في الداخل السوري، وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين التي خاضت صراعاً مسلحاً مع الجيش السوري أواخر سبعينيات، وأوائل ثمانينيات القرن الماضي، إلى أن قمعت الحكومة السورية تمرّدها بشكلٍ عنيف، وخصوصاً في معقلها الرئيسي مدينة حماة، وجرّمت كل من ينتمي إلى فكر “الإخوان” تنظيمياً أو فكرياً.

كان رهان أطراف الحرب السورية دائماً هو الانتصار العسكري بالضربة القاضية، فحكومة الرئيس السوري بشار الأسد تعاملت مع الأزمة كما لو أنّها مزيج بين ما سُمّي بثورات الربيع العربي، وبين تمرّد الإخوان في عهد الرئيس السوري السابق حافظ الأسد، وأنّ الحلّ لن يطول أكثر من شهور معدودة.

أما المعارضة المسلحة، فقد وقعت في هوى النموذج الليبي الذي انتهى بإسقاط نظام الرئيس الليبي السابق معمر القذافي، ومقتله بعدئذٍ، ومنّت نفسها بتسلم مفاتيح العاصمة دمشق خلال أيام معدودات، حتى وصل بها الزهوّ إلى إيهام أنصارها بأن الرئيس السوري سيكون أضحية العيد الأول الذي يلي بدء الأحداث، بل وتسابق داعموه إلى الإعلان أنهم سيُصلّون في الجامع الأموي عقب إسقاط النظام، كما في حالة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.

فضّل حزب الاتحاد الديمقراطي التنسيق مع الحكومة السورية في المناطق ذات الأغلبية الكُردية، دون الوصول لحالة التحالف الاستراتيجي، ووفق برامج وقتية محدّدة، تضمن مصالح الجانبين، وذلك رداً على الدعم غير المحدود الذي كانت تتلقاه المعارضة المسلحة من دول إقليمية وغربية، بالتوازي مع تطبيق مشروع الإدارة الذاتية التي قضمت سلطة الحكومة السورية شيئاً فشيئاً، إلى أن وصلت إلى مرحلة الخصومة التي لم ترتق للعداوة، مع دمشق، وذلك بسبب تحالفه مع الولايات المتحدة، وتطوير مشروعه إلى الفيدرالية المجتمعية ربيع العام 2016 .

كلّ ذلك والحزب مستبعَدٌ من العملية السياسية التي كانت جنيف مسرحاً لها منذ مطلع العام 2014 وفقاً لخطة المبعوث الدولي السابق لسوريا كوفي أنان، مروراً بحوارات آستانا وسوتشي، والتي كانت من مخرجات التحالف الروسي التركي الإيراني. وصولاً إلى جولات جنيف المستندة إلى القرار الأممي 2254 القاضي بتشكيل جسم انتقالي لديه صلاحيات تنفيذية كاملة.

كان رهان الإدارة الذاتية على سياسة فرض الأمر الواقع المترافق مع التعاون العسكري المضطرد مع الولايات المتحدة الأميركية لقتال تنظيم “الدولة الإسلامية” منذ بدء المعارك في 2014 وانتهاءً في العام 2019.

كلّ الرهانات سقطت نتيجة التوازنات القائمة في الميدان السوري، فالوجود الروسي المستند إلى شرعية طلب حكومي سوري، وواقع وجود مناطق للمعارضة السورية الموالية لتركيا على طول الحدود، بالإضافة لتفاهمات أنقرة مع موسكو في ترويكا آستانا، جعلت من بقاء الأولى في الجغرافيا السورية واقعاً مقبولاً، ولو إلى حين.

أما الولايات المتحدة، فهي باقية بحجة منع عودة “تنظيم الدولة” إلى الظهور، وحماية حقول النفط في شمال وشرقي سوريا، لمنع وصولها إلى الحكومة السورية، كوسيلة ضغط للقبول بإخراج القوات الإيرانية من سوريا، أو على الأقل تحجيم نفوذ طهران داخل الأراضي السورية، وتستخدم في سبيل ذلك ورقة الدعم الكُردي، للضغط على كل من موسكو وأنقرة ودمشق للقبول بالصيغة الأميركية الداعية إلى خروج كافة القوى الأجنبية التي دخلت إبان الحرب السورية عام 2011 وبقاء القوات الروسية كقوة أجنبية وحيدة في سوريا.

تجهد الإدارة الأميركية إلى العودة للمشهد السياسي السوري، عبر الضغط على فرقاء الحرب الرئيسيين لخلط الأوراق، وإعادة التموضع السياسي القائم على تقاسم كل من روسيا وتركيا ملف التمثيل السياسي، واستعمال ورقة العقوبات الاقتصادية عبر قانون قيصر لضمان الوصول إلى الحل المنشود أميركياً، والوصول لحلٍّ سياسي وفق القرار 2254 وتشكيل حكومة جديدة في سوريا، ولا تمانع مشاركة الرئيس السوري فيها، لكنها تريد من الحكومة الجديدة الالتزام بشرط مناهضة الوجود الإيراني، وهو ما سوف يحقق الهدف الأميركي والإسرائيلي من الحرب السورية، دون أن تنازع موسكو في امتلاكها لزمام التحكم بمفاصل الحكم في سوريا، مع الأخذ بعين الاعتبار الهواجس التركية من تشكيل أي كيان يكون للكُرد فيه دورٌ ريادي.

تقارب الرؤى بين القوى المؤثرة في المشهد السوري، يبدو جلياً أكثر من أي وقتٍ مضى، والخلافات هي في الطريقة التي يمكن الوصول بها إلى الهدف المشترك، وربما على الأطراف المحلية، أن تتحلى ببراغماتية تخوّلها للتكيّف مع أيّة تطورات درامية في قادم الأيام، حتى لا يصل أي طرف إلى أن يجد نفسه خارج حسابات المستقبل بعد خراب البصرة.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.