وصلت حالة التوترات بين الولايات المتحدة وإيران إلى نقطة الغليان في يناير 2020 عندما هاجمت القوات المدعومة من طهران المنشآت العسكرية والدبلوماسية الأميركية على الأراضي العراقية ، وانتقمت من واشنطن.

كما يبدو أن الحرب الباردة بين الولايات المتحدة وإيران تتأرجح نحو حرب شاملة ، يطرح صناع السياسة والخبراء الأميركيين مرة أخرى سلسلة متكررة من الأسئلة: لماذا الجيش الأميركي في العراق؟ لماذا لا يمكن له المغادرة؟ ماذا سيحدث لو غادر الأميركيون، وما الفائدة من وجودهم؟

يتوقّف مستقبل العراقيين – العرب والأكراد وجميع الأقليات العرقية  في العراق- إلى حدٍّ كبير  على طريقة الرد على ما طرح من أسئلة.

لدى الجيش الأميركي، أربعة خيارات ممكنة لسحب ما يقرب من 5000 من المستشارين والمدربين والموظفين اللوجستيين الموجودين حاليًا في العراق: ١- لا انسحاب، ٢- انسحاب محدود للمستشارين القتاليين المتقدمين فقط، وترك المدربين  ٣- الانسحاب الكامل لجميع المستشارين والمدربين؛ و أخيراً، فك الارتباط الاقتصادي الكامل وكذلك العسكري مع العراق.

أظْهَر بعض التوقّعات خطراً كبيراً على القتال الدائر ضد الدولة الإسلامية «داعش» حتى مع الانسحاب المحدود، وخطر الفشل الشديد إذا انسحبت الولايات المتحدة بالكامل. فإن أي انسحاب من شأنه أن يقوّض جهود واشنطن لموازنة النفوذ الإيراني في العراق، كما أنه يزيد من خطورة المنافسة الصينية والروسية في المجالين الاقتصادي والعسكري.

فاجئ استطلاعٌ للرأي أجراه مجلس شيكاغو في يناير الماضي، أنه مع تصاعد التوترات مع إيران، يرى الأميركيون حاجةً متزايدة إلى مراقبة الشرق الأوسط من خلال الحفاظ على وجود القوات العسكرية والمدنية هناك، ويُعدّ هذا الدعم الشعبي الأميركي مفاجِئاً لبعض المتابعين، رغم مطابقتها مع استراتيجية وزارة الدفاع الأميركية للدفاع الوطني الصادرة عام ٢٠١٨، ضمن إطار التحوّل نحو منافسة القوى العظمى (الصين، روسيا) واعتبارهما محور واحد.

يدعم بعض الخبراء في مراكز الأبحاث الأميركية إحدى الخيارين، الأول: عدم الانسحاب العسكري الفوري، ولكن مع التحرك التدريجي نحو تمكين قوات تدريب أصغر تدعم القوات العراقية أكثر قدرة على التعامل مع التهديد المتبقي لتنظيم «داعش» والميليشيات العسكرية.

وعليه فعلى الولايات المتحدة الدفع لدعم الديمقراطية العراقية، ومساعدة العراق على تطوير قواته الأمنية والتحكم وتعزيز الاقتصاد، والعمل على دمج العراق ضمن تحالفات إقليمية ذات صيغ أكثر ملائمة من الانجذاب نحو إيران وروسيا.

استمرار الدعم المباشر للعراق خلال خمس فترات رئاسية، يدفع اليوم قيادة البيت الأبيض إلى التنبّه من ازدياد المنافسة مع الصين و روسيا في شرق المتوسط، وحيث أن استمرار الصراع في سوريا أدى بشكلٍ عام إلى توتر لدى واضعي السياسات والقادة العسكريين الأميركيين.

يسود تصور عند بعض المحللين الشرق أوسطيين أن صانعي السياسات والقادة العسكريين الأميركيين ممزقون بين الحروب غير النظامية بما في ذلك مكافحة الإرهاب والتمرد ومساعدة قوات الأمن الشريكة في أنحاء العالم، والمنافسة بين القوى العظمى في آسيا وأوروبا. وهي تصوّرات لا تخلو من الصواب في التفاصيل لكنها مغالطة في المجمل، لسببين:

الأول، لا تنقسم منافسة القوى العظمى على أسس إقليمية. لطالما تنافست القوى العظمى في الشرق الأوسط وإفريقيا وجنوب آسيا، وليس فقط في شرق آسيا وأوروبا. فالصين وروسيا قامتا بتسريع استثماراتهما في منطقة الشرق الأوسط وتحديداً في العراق.

حيث تسعى روسيا للسيطرة على مشتريات الأسلحة العراقية من أجل زيادة عائداتها ونفوذها الوطني في العراق. وتعتمد الصين على إمدادات ثابتة من النفط الخام الخفيف، وينظر القادة الصينيون إلى العراق كجزء من مبادرة الحزام والطريق “المشروع الكابوس للولايات المتحدة”.

حيث أن مبادرة الحزام والطريق، هي المبادرة الرئيسة للسياسة الخارجية الصينية لضمان نموها الاقتصادي وتحسين حضورها العالمي، على الرغم من أن بعض الخبراء ينظرون إليها على أنها استراتيجية لإعادة التوازن الاقتصادي العالمي التنافسي على حساب دول جنوب آسيا والدول الغربية، أو حتى خطة للسيطرة الاقتصادية. إذاً فالانسحاب الأميركي من العراق يترك فرصاً مفتوحة للصين وروسيا وقد يعرض المصالح الأميركية في الشرق الأوسط والعالم للخطر.

والسبب الثاني، لا تنفصل منافسة القوى العظمى بالكامل عن الحرب غير النظامية. وعليه فإن الأنشطة في العراق مثل مكافحة الإرهاب والتمرد، ضرورية لهزيمة الدولة الإسلامية «داعش» وللتقدم في المنافسة الإقليمية مع الصين وروسيا من خلال المساعدة على إبقاء الديمقراطية العراقية على المسار الصحيح.

بقدر ما قد يرغب أعضاء المجموعة السياسية في واشنطن في الهروب من الشرق الأوسط، وخاصة العراق، لكن الظروف الجوسياسية تثبت استبعاد ذلك. وتأكيداً عليه اضطر الرئيس “ترامب” لزيادة الوجود العسكري في الشرق الأوسط، بدلاً من الانسحاب.

ومع أن المنافسة مع الصين وروسيا هي التحديات الأكبر التي تواجهها الولايات المتحدة، لكن لا تزال إيران هي التهديد الأكثر إلحاحًا. ففي الوقت الذي تؤمّن فيه واشنطن مستقبلها في العراق ، وبينما تتنافس روسيا والصين على النفوذ الإقليمي، تمضي إيران قُدماً في جهودها للسيطرة على الحكومة العراقية والأجهزة الأمنية، ونشر أجندتها الراديكالية عبر العراق في الشرق الأوسط الكبير.

يضاف إلى ذلك ما ذكره ديفيد بولوك الزميل الأقدم في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى: «قد تجد إسرائيل نفسها مضطرة إلى تكثيف غزواتها ضد الإرهابيين ووكلاء إيران داخل العراق، الأمر الذي قد يُجهد قدراتها، ويزيد من هشاشة الوضع في العراق، ويخاطر بالتعرّض لانتقامٍ أكبر. وقد يكون التهديد المشدد للأردن، الذي تجمعه مع إسرائيل حدودٌ طويلة ومعاهدة سلام، مصدر قلق بالغ أيضاً».

لأسبابٍ عديدة ومستمرة، فإن ازدياد عدد القوات الأميركية العسكرية والمدنية حالياً واستقرار قوات دعم تدريبي وسياسي مستقبلاً، هو ما يمكن رؤيته في العراق وحتى في شرق سوريا، وهو ما يمكن أن يدعم مصالح الولايات المتحدة في شرق المتوسط، وهو ما سيكون حاسماً لواشنطن في السعي لتحقيق تصوّراتها الخاصة بأمن واستقرار المنطقة.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.