الطبقة والعملية السياسية، ونتيجة سياساتها الخاطئة في العراق، عرّضت الدولة والشعب، إلى اهتزازاتٍ عنيفة على امتداد ما يزيد على عقدٍ ونصف من السنوات، فكان لسياسات تغييب الهوية الوطنية وانعدام العدالة الاجتماعية واعتماد عُرف استلاب المؤسسات واحتكارها لفئاتٍ حزبيةٍ غير كفوءة وتمكين الفساد كقوةٍ رديفة للدولة كاستحقاقٍ سياسي وتوظيف السلاح للهيمنة على مستويات الحياة، كان له الأثر الكبير في حدوث شرخٍ عميق ما بين النظام الديمقراطي والشعب، الأخير الذي كان طامحاً بنظامٍ عادل يتسيّده القانون والتكافؤ مع الدول ونُظمها السياسية والشعوب الأخرى.

سيطر الغرور السياسي على نهج وأداء ومواقف وتعاطي أغلب القوى الممسكة بالسلطات ومقدرات الدولة، فهذه لم تكترث بالاحتجاجات المتباعدة على مر السنوات الماضية، وذهبت أبعد من ذلك حين نظرت للشعب على أنه مجرد جسر يديم زخم الشرعية المتناقصة لها مع كل حفلة تزويرٍ انتخابية، فكان الامتناع الشعبي عن انتخابات 2018 ، بداية النهاية لكثيرٍ من الصلات مع هذه الأحزاب وفقدان الثقة بالأطروحات  والزعامات السياسية وما يتبعها.

صُوّرت معادلة السلطة لعام 2018 ، على أنها المنقذ السياسي للنظام والشعب، والرافعة لأخطاء الماضي، إلا أن جوهر الحقيقة كان انقلاباً ناعماً يعمل على تكريس العراق كدولةٍ هشّة، تتحكّم بها قوى ظلّت خارج الدولة منذ التأسيس لما بعد 2003 ، تعمل على إعادة إنتاج نظامٍ قمعي لا يسمح بتجاوز ما يرسمه من حدود الحياة بكل مستوياتها.

لم تعد الدولة كما كانت، ولا حتى ديمقراطية النظام، كأملٍ مُنتَظر، لذلك جاءت ثورةُ تشرين لتعُلن نهاية الثقة عن مضامين العملية السياسية وزعاماتها التي لم تنتُج سوى المزيد من التآكل لما تبقى من الدولة، وعلى الرغم من محاولة قوى الخراب استعادة شرعيتهم برصاص الديمقراطية مستخدمين حاكم  جسد أسوء صور ضعف النظام والدولة، إلا أن كل محاولات القتل والترويض القسري لم تجدي نفعاً، لذا وجدت معادلة السلطة وعمليتها السياسية نفسها أمام تهديدٍ حقيقي لوجودها الحاضر ومصير مستقبلها القادم، فلم يكن منها إلا أن تعود خطوةً إلى الوراء بتقديم تنازلٍ محدود يتمثّل بإعادة تشكيل المشهد التنفيذي من جديد وفق مقاربةٍ لا تختلف عما طرحته سابقاً من تقاسم مناطق النفوذ والامتياز.

القبولُ على مضض بالكاظمي من هذه القوى، وهو الخارج والبعيد جداً عن حدودهم ونهجهم، مثل لحظة تهدئة مع المتحوّل الداخلي الشاخص بحركة أكتوبر الاحتجاجية والتهديد الخارجي المتمثّل بالتلويح بعقوبات وعزلة دولية، لكن حتى هذا التنازل لم يعد كافياً لنضجٍ سياسي شعبي ناقم، بل إن إصلاحاً جوهرياً للنظام السياسي أصبح هو الهدف الأساس للثورة المتّقدة.

نعم، قد يُمثّل وجود الكاظمي على رأس السلطة التنفيذية، محاولةً لبناء الثقة من جديد، لكن هذا الأمر لا يتوقّف على الكاظمي نفسه ومنهجه في الحكم ومحاولته وقف انهيار العراق الذي تسببت به قوى خارج الدولة، بقدر ما يتعلّق برغبة هذه القوى بالذهاب أبعد من السلطة التنفيذية؛ ليشمل إعادة تصحيح وهيكلة للدولة ونظامها وإيمانها بالديمقراطية والسيادة للدستور والقرار العراقي.

ما لم تدركه هذه القوى، أنها مهما قدّمت _ رغم الشك أنها ستُقدّم _ من تنازلات، فأنها غير قادرة، وبكل مخرجاتها أو صفقاتها وتسوياتها القادمة على إمكانيتها ببناء الثقة من جديد، فالحقيقة هي أنها وصلت للمرحلة الصفرية من التأييد الشعبي، وعليها أن تدرك أيضاً، بأنه إذا ما نجح الكاظمي برسمٍ جديد لخطوط ثقة، فهو لا يعني بالضرورة عودة الثقة بهم أو بالعملية السياسية.

إن بناء الثقة بالعملية السياسية مرةً أخرى؛ لن يرتبط بقوى خارج الدولة الحالية أو هذه الطبقة السياسية، بل يرتبط بجيلٍ سياسي جديد يؤمن بالعراق والدولة والشعب، وهذا الجيل المختلف سياسياً سيخضع أيضاً لمرحلة اختبارٍ أخرى وقدرته على تحقيق الطموح بنظام وعملية سياسية تتطابق مع تطلعات الشعب بعراقٍ حر يمتلك السيادة وغير خاضع لأيّة أجندة إقليمية، ولذلك فهذا المسار  يبقى شائكاً ومُعقّداً.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.