أربعون يوماً مضت ولا تزال العمليات العسكرية التركية في إقليم كردستان متواصلة، ولم تنسحب أية قوة من قوات أنقرة من أراضي الكُرد بل يزداد عديدها يوماً بعد آخر، متجاهلة كل النداءات العراقية والكردستانية، ومخترقة الحدود البرية والجوية والأعراف الدولية والقوانين والجيرة والصداقة، بحجة محاربة “حزب العمال الكردستاني”.

كانت تركيا، خلال أكثر من عقد تعتمد على سياسة “الضرب ثم الهرب”، وهي تتكل عليها لاستهداف بعض المواقع التي ترصدها عبر المخابرات التركية داخل العراق، وما تحصل من معلومات من أصدقاء أنقرة في أربيل وبغداد، ولكن عمليات المخلب “النمر والنسر” لا تبدو كما الضربات السابقة، إنها تنوي البقاء.

تقول أنقرة إنها تتقدم باتجاه الخلاص من “الإرهاب” الذي يهددها ويُهدد العراق، متمثلاً بحزب العمال، ولكن على أرض الواقع هناك العشرات من الأبرياء وتحديداً من الأطفال سقطوا قتلى في “كونه ماسي” بالسليمانية، وشُرّدت عشرات الأسر من القرى القريبة من مرتفع “شاقولي” القريب من زاخو، وغيرها من البلدات الكردية التي سُحقت محاصيلها الزراعية بالعجلات العسكرية والدبابات وحُرقت بنيران القصف.

تنفي تركيا هذه الأفعال، ويؤكد قنصلها في أربيل على أن أنقرة لا تعادي الكُرد، وأنها تنتظر إنهاء خطر حزب العمال ومن ثم الانسحاب من أراضي كردستان العراق، ولكن لِمَ الانسحاب وقد أسست أنقرة خلال الأسابيع الماضية مقرات عسكرية شبه ثابتة، وهي أصغر من القواعد بقليل، وسيطرت على أهم المرتفعات في كردستان؟

واقعياً، لا يظهر على تركيا نية الانسحاب من إقليم كردستان، خلال الفترة القليلة المقبلة، بعد سيطرتها على “شاقولي”، ولكن مَنْ المهم: شاقولي أم قنديل؟ ولا سيما أن الأخير يعتبر معقل العمال الكردستاني.

لا تريد تركيا، لا هذا ولا ذاك، إنما تريد السيطرة الرقابية، فهي تنظر إلى قنديل من خلال شاقولي، دون التقدم باتجاه الأول، لأن التقدم يعني المواجهة، وحتماً سيخسر الأتراك في قنديل، كون العراقيين أنفسهم غير قادرين على فهم طبيعة الرقعة الجغرافية هناك، فهي وعرة وقاسية وغاضبة ومليئة بسلاح العمال.

تريد تركيا البقاء في المرتفعات الآمنة في كردستان أطول فترة ممكنة، وبالرغم من كونها غير مرغوبة حالياً، ولكن مع مرور الوقت ستفرض نفسها كحالة اعتيادية كما حصل مع قاعدة قواتها في “بعشيقة”، لدرجة أن الأخيرة باتت جزءاً من الواقع الفوضوي العراقي.

لدى تركيا مشروع مهم في سوريا، هي تسعى للسيطرة على أكبر مساحة ممكنة من الأراضي هناك، وأكبر قدر من الموارد وأكثر عدد من السوريين، وبكل تأكيد “حتى ينعم الشعب السوري بالحرية” كما يقول أردوغان، وهذا المشروع المهم يحتاج إلى جدارٍ أمني أو شريط عازل يقطع الطريق على العمال الكردستاني للعبور من الموصل إلى حلب، كما أن تواجد الأتراك في إقليم كردستان يقطع بطريقة مباشرة وغير مباشرة تواصل كرد العراق بكرد سوريا، لذلك فإن تأمين الطريق الرابط بين الموصل وحلب أهم من تطهير جبل قنديل من حزب العمال.

وبما أن السيادة منهوبة في العراق، فإن الأتراك سيبقون في إقليم كردستان، وقد تتقدم القوات التركية باتجاه سنجار الواقعة تحت سيطرة شبه كاملة بأيدي حزب العمال، وهنا سنشهد عشرات بيانات الاستنكار والمؤتمرات الإعلامية، وفي النهاية تصبح أمراً واقعاً بفضل إرادة التركي وتكاسل العراقي.

قد تبقى القوات التركية إلى الأبد في العراق طالما أن أنقرة ترى مشروعها في سوريا باقٍ إلى الأبد، وطالما أن في بلاد الرافدين ساسة لا علاقة لهم بشؤون أرضهم ومن يدوسها ومن يموت فيها ومن يُنحر، ومن يُسبى ومن يُسلب، فإن السيادة ناقصة على الأرض، وكاملة في الشعارات والخطابات والبيانات الصحفية.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.