في العراق، تتوالد الخصومات السياسية منذ نشوء الدولة الحديثة، وهذا يبدو طبيعياً بحكم تنافس الأيديولوجيات وتدافع المكونات والصراع الحزبي والشخصي في أحيان كثيرة أو من خلال فاعل خارجي، ويمكن لنا أن نميز في مفهوم الخصومة مسارين، الأول خصومة المنافسة والثاني خصومة الإقصاء والتعطيل، بالرغم من أن ثمة فارقاً فعلياً بين الخصومتين، إلا أن هناك من يجد صعوبة في وضع حدٍّ فاصل بينهما لعدم القدرة على استيعاب المعنيين للمصطلح والمفهوم والتطبيق.

خصومة الإقصاء، أياً كان عنوانها، هي التي كانت سائدة في عقل السياسي العراقي، لذلك شهدنا على مستوى التاريخ الذي نعاصره صور لخصومات وصلت حد القتل والتغييب والاعتقال والخطف والابتزاز، والإسكات والمواجهة المسلحة أو تحفيز الشارع الحزبي لإضفاء الشعبية على هذه الخصومة.

لم تختر الطبقة السياسية الحالية إطار خصومة التنافس المنتج لمقاربات يمكن أن تدعم النظام الديمقراطي في العراق، وبما ينعكس إيجابياً على طموحات الشعب العراقي لحياة أفضل، بل مضت هذه الأحزاب إلى تثبيت خصومة الإقصاء والعرقلة والتشويه كأساس لعملها السياسي تجاه القوى الأخرى أو على امتداد الحكومات التنفيذية.

كان الأخطر بالنظام الديمقراطي الحالي  (أن وجدت الديمقراطية في العراق)، حين تحوّلت حكومة عادل عبد المهدي إلى حكومة خصومة وتصفية حسابات مع منافسيه وشركائه السياسيين السابقين أو حين تحولت حكومته تحت أنظار عددٍ من أحزاب خصومة الإقصاء، أثناء حركة أكتوبر الاحتجاجية، إلى منهج خصومة القتل للشعب، فقط لأن هناك من حاول ديمقراطياً تثبيت الدولة على الدستور والأطر القانونية التي تحمي الجميع وتنهي حالة الإقصاء واللامساواة.

الكاظمي، كغيره من ورؤساء الوزراء، حُظي بدعم أغلب القوى السياسية من خلال البرلمان لحظة منح الثقة، مما ولّد قناعات لدى الكثير بإمكانية وجود تغيير في تعاطي الأحزاب السياسية مع تحديات المرحلة الحالية أو إنهاء مبدأ خصومة الإفشال، بسبب انهيار الدولة ومؤسساتها؛ نتيجة إخفاق الأداء السياسي وجائحة كورونا والأزمة المالية.

هذا الاستنتاج من عددٍ من المراقبين، يبدو غير دقيق إذا ما أخذ بنظر الاعتبار التجارب السابقة ومستوى خزين الوعي السياسي الحالي أو حتى حسابات الأحزاب لمستقبلها ووجودها في المشهد العراقي.

بتقدم عمر الحكومة وأدائها، سيواجه الكاظمي أزمات سياسية متصاعدة من قوى وأحزاب وزعماء سياسيين، الذين سيلتقطون كل حدث أو إخفاق، وهم خبراء التوظيف، لغرض رفع رصيدهم السياسي لأجل الظهور كمدافعين عن حقوق الشعب والمكون والمنهج السياسي من جهة والعمل على تقويض أي مساحة تقدم، إن وُجِدت، للكاظمي بهدف البقاء الأوحد في المشهد والجغرافية السياسية.

يمكن لنا أن نضع ثلاث مديات زمنية لخصومات القوى السياسية للكاظمي، المدى المنظور والمتوسط وبعيد المدى.

على المدى المنظور؛ فإن تحالفا دولة القانون والفتح من أوائل القوى السياسية التي أظهرت معارضة غير رسمية وخصومة للكاظمي، وقد يكون موقف دولة القانون متقدماً على تحالف الفتح في ذلك، قبيل منح الثقة للكابينة الوزارية لعدة حسابات تبتدئ سياسية ولا تنتهي عند حدود إعادة ترسيم مساحات التواجد في مؤسسات الدولة.

والسبب ذاته ينسحب إلى تحالف الفتح لكن بشكلٍ ثانوي، سيما وأن الفتح خسر إلى حدٍّ كبير كونه الركيزة الأساسية لحكومة المقال عبد المهدي وما حصل عليه من تمكين من خلالها، لذلك فالفتح بجناحيه السياسي والفصائلي، يُدرك جيداً أن عليه العمل بشكلٍ مختلف للظفر بفرصة استعادة هذه الركيزة أولاً، وثانياً انتهاج فعل الاشتباك السياسي وما يُتيحه من مساحات ضغط ومكاسب ومقارنة قد تُمكّن الفتح من الحفاظ على رصيده السياسي الشعبي بما يجعله لاعب أساس في الخارطة السياسية القادمة.

على المدى المتوسط، سينتقل التحالف اَلْكُرْدِسْتَانِيّ إلى دائرة الخصومة السياسية مع الكاظمي، فالملفات المزمنة لا يمكن إغلاقها في حكومةٍ انتقالية، كما اتفق الكبار على توصيفها، فبغداد الاتحادية لن تجازف بالتماهي مع مطالب إقليم كُرْدِسْتَان في قضايا تصدير النفط والعائدات الأخرى (غير المتفق على عائديتها) والأرض وما تحتها والمنافذ الرسمية وغير الرسمية وحدود نفاذ الصلاحيات الاتحادية والديون المتراكمة المتبادلة بين بغداد وأربيل وغيرها من الملفات الشائكة.

كل ذلك سيدفع اَلْكُرْد إلى تصاعد أصواتهم تجاه الكاظمي الذي لا يستطيع أن يقدم سوى التهدئة المطابقة للنصوص الدستورية المتفق عليها والتي لن تكون رافعةً لأزمات الإقليم التي يعانيها، مما يسهل لهم إعادة التّموضع  كخصوم من حكومة الكاظمي وقد يتبعه الإعلان عن فشل بغداد في تحقيق مطالب (الشعب الكردي) قبل الانتخابات المبكرة (إن جرت).

على المدى البعيد؛ ستكون قوى دعم حكومة الكاظمي، الحكمة__ سائرون_ النصر، أيضاً ضمن قائمة الخصوم السياسيين. فالحكمة، الراعي الأكبر للكاظمي، يبدو أنه غير بعيد عن اتخاذ موقف ما قبل لحظة صناديق الاقتراع، فاعتماد المشروع السياسي الجديد (عراقيون) تحت شعار الدعم للدولة، يمكن تفسيره مسكاً لخيوط التراجع وإعلان غير مباشر بأنهم كانوا داعمين لخيار الدولة وليس حكومة الكاظمي التي يمكن أن يتحمّلوا تبعات فشلها، إذا ما فشلت.

سائرون ككتلةٍ برلمانية، لا تعطي ضمان مفتوح وغالباً ما تنأى بنفسها في وقتٍ مبكّر عن أي التزامٍ طويل مع أيّة حكومة، وما يعزز هذه الفرضية؛ هو مهلة الـ 100 التي قد تعقبها 100 أخرى، وهي إشارةٌ إلى إمكانية الاستدارة عن أيّ دعمٍ سابق، فضلاً عن اختيار المعارضة الشعبية (التظاهرات)، لما قد تسميه إخفاق حكومة الكاظمي.

النصر، المنتقل من خصومة حكومة عبد المهدي كمعارضة تقويمية إلى الدعم والتبنّي المباشر للحكومة الحالية، مُتسلّحاً بكون رئيس الوزراء الكاظمي خرج من طاقم رئيس ائتلافه ونهجه، إلا أن ذلك لن يمنع النصر من التحوّل للخصومة المرنة وفيما بعد الانفصال النظيف عن الكاظمي، كون النصر يقاتل في سبيل استمرار  مشروعه السياسي وغير مستعد للذوبان بأيِّ دورٍ ثانوي لحظة الانتخابات إذا ما نجح الكاظمي وكان هناك مشروع سياسي جديد، أو تحمل نتائج الدعم، إذا ما أخفق الكاظمي بترجمة طموح ومطالب الشعب العراقي على شكل أداء وقرارات تعيد نهج الدولة.

القوى السُّنيّة تتخذ من البراغماتية السياسية منهجاً ثابتاً لها، فهم إذا ما نجح الكاظمي وعمل على تشكيل مشروع سياسي جديد سينخرطون معه، وإذا ما فشل؛ ستكون حقوق المكوّن والمغيبين وإعادة إعمار المدن شعار الخصومة للكاظمي.

أشد خصومة سيواجهها الكاظمي؛ هي خصومة الشعب والحركة الاحتجاجية، إذا ما فشل بتحقيق مطالب ثورة أكتوبر بإجراء انتخابات مبكرة (حرة ونزيهة) وتقديم قتلة المتظاهرين إلى القضاء، أيا كانت عناوينهم السابقة والحالية، والعمل على تقويض الفساد وإعادة هيكلة الدولة وتفكيك الدول العميقة في المؤسسات الإدارية، فإن ذلك سيفتح الباب لعنفٍ سياسي لأجل الوصول للحقوق المستلبة، لذا على الكاظمي الاصطفاف والاقتراب المباشر من الشعب وعدم خلق خصومة معه، فقد كان للشعب وحركته الاحتجاجية الفضل باستعادة الدولة والديمقراطية.

قد يبدو المشهد مليء بالأصدقاء في هذا الوقت، لكن الواقع يشير إلى أن الآخرين (السياسيين) سيتخلَّون عنك تدريجياً وستجد نفسك وحيداً مع خارطة خصوم متصاعدة يوماً بعد آخر.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.