إن انحدار العراق إلى “الكليبتوقراطية” أي (حكم اللصوص) تنبع، في الغالب، من وصول عائدات مبيعات النفط إلى أيدي مَنْ يقومون بغسل الأموال والجماعات الإرهابية والحرس الثوري الإيراني، وذلك بفضل طقوس غير معروفة يديرها البنك المركزي العراقي تدعى (مزاد الدولار).

وكان (مزاد الدولار) هذا يسمى (نظام الصرف الصحي للفساد العراقي)، ولكن نادراً ما يتم الكتابة عن أعماله الداخلية. فمخططات الاحتيال التي تدور حوله، قد غذت كل جانب في الحرب الأهلية السورية، بما في ذلك تنظيم داعش.

وبذلت وزارة الخزانة الأميركية جهوداً جادة لإبعاد دولارات المزاد عن أيدي تنظيم داعش وإيران، لكن يجد الإرهابيون مراراً وتكراراً شركات وأساليب جديدة لإخفاء مشاركتهم في المزاد، وغالباً بتواطؤ من مسؤولي البنك المركزي.

اسم المزاد مضلل! إنها عملية يومية يقدم فيها البنك المركزي العراقي دولارات لعدد محدود من البنوك التجارية في البلاد مقابل الدينار العراقي. من حيث المبدأ، يشبه هذا  المزاد العملية التي تستخدمها بعض الدول الأخرى لتسهيل التجارة الخارجية.

وكان من المفترض أن تعمل على النحو التالي: شركة تعتزم استيراد الأحذية من الهند، على سبيل المثال، تذهب إلى بنكها العراقي المحلي بفاتورة من شركة الأحذية الهندية. ويقوم البنك المحلي بالتصديق على المعاملة وإيداع المبلغ المطلوب بالدينار العراقي لدى البنك المركزي، والذي يقوم بتحويل الدولارات إلى حساب مراسل يخص، بشكل ظاهري، المصدّر.

وبدأت المشكلة بمد هائل من الأموال “القذرة”: العراقيون الذين سرقوا مبالغ كبيرة من خلال عقود احتيالية أو قبض رشاوى كانوا متعطشين لتداول دينارهم بالدولار، حتى يتمكنوا من استخدامها في الخارج.

ولتلبية الحاجة، بدأت فئة جديدة من الانتهازيين في تسجيل الشركات المزيفة واختلاق الفواتير المطلوبة لمحاكاة صفقة الاستيراد، والتي سيتم تمويلها بعد ذلك عن طريق المزاد بالدولار.

وفي غضون أيام، يمكن لشخص ما قام بالاحتيال على بلده بالملايين أن يصبح مالك منزل ريفي في لندن. وتركت الواردات الزائفة أثراً ضئيلاً، لأنه تم توثيقها ببطاقات هوية وصور لأشخاص حقيقيين، الذين سيوافقون على لعب دور مسؤولي الشركة مقابل مبلغ من المال.

يقول مصرفي عراقي سابق، وهو واحد من العديد من الممولين والمسؤولين الحكوميين السابقين: «كانت هناك مكاتب صغيرة يديرها الشباب لإنتاج أعمال تزوير محترفة. ولتجنب دفع الضرائب على الواردات المزيفة، سيسجل القائمون بغسيل الأموال عشرات الشركات، ويتركونها ويؤسسون شركات جديدة كلما كانت الضرائب مستحقة. وقاموا بإشراك سلطات الحدود، ودفعوا للمسؤولين لتزويد الكشوف المزيفة بطوابع واقعية المظهر. وسيطر غاسلو الأموال في نهاية المطاف على معظم مبيعات الدولار اليومية للبنك المركزي، والتي بلغ مجموعها، وفقاً لأرقام البنك المركزي، أكثر من 500 مليار دولار منذ عام 2003».

وهذا الرقم أعلى بكثير من عدد الدولارات الفعلية التي تم نقلها إلى العراق من الاحتياطي الفيدرالي، لأن معظم الدولارات التي يبيعها البنك المركزي هي تحويلات إلكترونية من عائدات النفط العراقي.

وكان الاحتيال واضحاً في بعض الأحيان. ففي عام 2017، استورد العراق رسمياً ما قيمته 1.66 مليار دولار من الطماطم من إيران، أكثر من ألف ضعف الكمية التي استوردها في عام 2016.

كما أدرجت واردات بقيمة 2.86 مليار دولار في البطيخ من إيران، مقارنةً بـ 16 مليون دولار في العام السابق. وهذه الأرقام لا يمكن تصديقها حتى لو لم يزرع العراق كميات كبيرة من الطماطم والبطيخ.

ويقول الاقتصاديون أن أرقام الاستيراد الرسمية هذه، والتي لا تزال موجودة على موقع وزارة التخطيط العراقية، هي غطاء مقنع بشكل سيئ لغسيل الأموال عبر المزاد بالدولار.

وقد مكّن “مزاد الدولار” هذا، من فتح طرق للاختلاس على نطاق واسع، حيث قام بتمرير مليارات الدولارات إلى وسطاء القوة في العراق. ويستند هذا الاحتيال إلى الفرق بين سعر الصرف الثابت الذي يقدمه البنك المركزي المرتبط بالدولار وسعر السوق المتذبذب، والذي غالباً ما يكون أعلى بكثير.

وبعد فترة وجيزة من بدء هذا المزاد في عام 2003، أدرك القائمون على غسيل الأموال أنه إذا تمكنوا من تزوير صفقة استيراد، فيمكنهم بعد ذلك إعادة بيع الدولارات التي حصلوا عليها من البنك المركزي، وتحقيق ربح فوري من فرق السعر.

وبمجرد أن أدرك الزعماء السياسيون العراقيون حجم الأموال التي سيتم جنيها، سيطروا على حق الوصول إلى المزاد. وتم طرد الشركات العادية والبنوك التي ترغب في القيام بالاستيراد أو الإقراض المشروع من قبل أولئك الذين يدعمون الأحزاب السياسية والميليشيات الرئيسية.

ولإخفاء هذا الاستحواذ، اشترى الأثرياء المتنفّذون جميع البنوك التجارية المتبقية تقريباً، وحولوها إلى مجرد وسائل لدخول المزاد.

ومن المستحيل تحديد عدد المليارات التي تمت سرقتها من خلال الفرق في سعر الصرف، لكن العديد من المصرفيين السابقين والمسؤولين العراقيين يرون أن هذا النوع من الاحتيال يمثل معظم الواردات المزعومة التي يمولها مزاد الدولار منذ حوالي عام 2008.

ويمكن تقدير، بناءً على أرقام من موقع البنك المركزي على شبكة الإنترنت ومعلومات من مصرفيين عراقيين ومسؤولين ماليين، نحو 20 مليار دولار، كلها سرقت من الشعب العراقي.

وبعض البنوك التي تحقق أرباحاً هائلة من المزاد ليست أكثر من واجهات، مع مكاتب فرعية متداعية ونادراً ما يوجد أي موظفين. «لقد اشترى أحد البنوك 4 مليارات دولار في المزاد، وهو ما يعادل إجمالي ربح قدره 200 مليون دولار. وعند فحص هذا البنك، تبين أنه يحتوي على غرفة واحدة وجهاز كمبيوتر وبعض الحراس»، يقول برلماني عراقي يحقق في قضايا الفساد.

كما لم يكن الضرر الناتج عن الغش في المزاد يتعلق فقط بالأرباح غير المشروعة، فمع تحول المصارف التجارية العراقية إلى أدوات للمزايدة وجني الأرباح، تُركت الشركات العادية دون الحصول على القروض التي تحتاجها للنمو. واضطر بعض المستوردين الشرعيين  غير القادرين على الحصول على دولارات عن طريق المزاد إلى استخدام البنوك الأجنبية بدلاً من ذلك.

ومن الصعب معرفة مقدار الضرر الذي لحق بالاقتصاد، لكن جميع المحللين يقولون إن ذلك كان مدمراً، وأفقر القطاع الخاص في البلاد وجعل العراق أكثر اعتماداً على عائداته النفطية، التي تم خفضها إلى النصف في الأشهر الأخيرة.

زعيمٌ عراقي واحد فقط بذل جهوداً جادة لكشف الجرائم المحيطة بـ “مزاد الدولار”، وكان بطلاً غير محتمل. فقد قاد “أحمد الجلبي”، المصرفي والسياسي الذي ساعد إدارة بوش في تبرير دخولها للعراق، تحقيقاً برلمانياً في عام 2014 حول هذا المزاد.

وكشف عن وثائق تثبت  تورط بعض أكبر البنوك في البلاد وأصحابها في عمليات احتيال واسعة النطاق.

ومثلما كان متوقعاً أن يكشف المزيد من الفضائح في شهر تشرين الثاني 2015، توفي الجلبي بنوبة قلبية. وعلى الرغم من التوقيت المشبوه، لم يجد تشريح الجثة أي دليل على أي شيء غير طبيعي. ولم يتعرض المصرفيون الذين حددهم في تحقيقاته لأي عواقب ولا يزالون على رأس عملهم.

ولا يزال “مزاد الدولار” مستمراً حتى يومنا هذا، وكذلك غسيل الأموال والسرقة التي تحيط به. وفي أحد الأيام في منتصف شهر آذار الماضي، سجل الموقع الإلكتروني للبنك المركزي مبيعات بالدولار تتجاوز 200 مليون دولار، أي أكثر من مليار دولار في أسبوع عمل واحد، من المفترض أن تدفع جميعاً مقابل المستوردات.

وفي ذلك الوقت، كانت جائحة الفيروس التاجي تغلق الاقتصاد العراقي. وقد تكون بعض هذه المستوردات مشروعة، لكن بعض المصرفيين يقولون إن الأرقام تشير إلى استمرار غسيل الأموال على نطاق واسع.

ومن العلامات الصارخة الأخرى للاحتيال إجمالي المبلغ اليومي للدولارات التي يبيعها البنك المركزي لمراكز الصرافة العراقية، والتي من المفترض أن يستخدمها فقط العراقيون المسافرون إلى الخارج.

ففي منتصف شهر تموز، كانوا لا يزالون في المتوسط ​​ما بين 10 إلى 11 مليون دولار يومياً، على الرغم من إغلاق مطار بغداد منذ شهر آذار حتى 23 تموز، ولا تزال قيود السفر قائمة.

وهناك كذلك أدلة على أن المزاد يواصل تقديم الأموال للتنظيمات الإرهابية. ففي تشرين الأول الماضي، أرسل مجلس الاحتياطي الاتحادي في نيويورك رسالة إلى البنك المركزي العراقي يطالبه بمنع بنكين أثنين ومركز صرافة من استخدام “مزاد الدولار”.

مشيراً إلى أن لديه سبب للاعتقاد بأن هذه الكيانات الثلاثة “تابعة أو متورطة في التعاملات المادية مع تنظيم داعش أو تنظيم له علاقات معه. والكيانات الثلاثة مملوكة لممول يدعى “حسن ناصر جعفر اللامي”، المعروف أيضا في الدوائر المالية العراقية باسم “ملك الفواتير المزيفة”.

وفي شهر كانون الثاني الماضي، أجرى موظف في البنك المركزي العراقي مقابلة مع محطة تلفزيون لبنانية زعم فيها أن “اللامي” لا يزال يستخدم المزاد المذكور، من خلال بنوك أخرى غير تلك التي ذكرها الاحتياطي الفيدرالي.

وفي بعض الحالات، يبدو أن البنك المركزي العراقي يتحايل عن عمد على جهود مجلس الاحتياطي الفيدرالي أو وزارة الخزانة الأميركية. ففي عام 2018، فرضت وزارة الخزانة عقوبات على “آراس حبيب كريم”، وهو شخصية سياسية مكلفة بتوجيه الأموال إلى #الحرس_الثوري وحزب الله اللبناني.

كما فرضت عقوبات على البنك الذي يديره، والمعروف باسم بنك البلاد الإسلامي. ولكن بدلاً من تجميد أصول “كريم”، أمر البنك المركزي العراقي في شهر تشرين الأول بإعادة 40 مليون سهم في بنك البلاد يملكها “كريم” وعائلته.

 

المصدر: (The New York Times)


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.