منذُ سنوات، تحدّثت حكومة #بغداد عن مشروع طموح لتحويل موقع (صدر القناة) إلى منطقة ترفيهية واسعة في الهواء الطلق، تشمل الملاعب الرياضية والحدائق والمطاعم والملاعب. وبناء الجسور الزخرفية على القناة، حيث يركب الزوار ذهاباً وإياباً على متن القوارب.

وفي عام 2011، وقعت محافظة مدينة بغداد عقداً مع ثلاث شركات إنشاءات مقابل 148 مليون دولار تقريباً. واليوم، الموقع عبارة عن مكب نفايات كئيب ولا شيء يدل على أنه تم إنفاق أي فلس عليه.

أُنفِقت مليارات الدولارات على الكهرباء، ومع ذلك لا يزال العراق يعاني من انقطاع التيار الكهربائي حتى 20 ساعة في اليوم.

ويبدو أن لا أحد يعرف بالضبط ما حدث للأموال التي استُثمِرت في (صدر القناة)، لكن تقرير #هيئة_النزاهة_العراقية يشير إلى ملاحظات مألوفة للأسف: تأخيرات وخلافات ومحافظ سابق هرب مع أحد نوابه من البلاد، «مما تسبب في ضرر متعمد بأكثر من 12 مليون دولار» معظمها انتهى بها الأمر في جيبه.

وهناك مشاريع مثل هذا المشروع في جميع أنحاء العراق، حيث ترى رافعات مهجورة أكلها الصدى فوق هياكل مساجد نصفية ومشاريع إسكان. والعديد من هذه المشاريع تقيدها النزاعات القانونية والسياسية. فقد أُنفِقت مليارات الدولارات على الكهرباء، على سبيل المثال، ومع ذلك لا يزال العراق يعاني من انقطاع التيار الكهربائي حتى 20 ساعة في اليوم.

والعراقيون يصفون رجال الأعمال المشهورين وسماسرة السلطة الذين يثرون بشكلٍ كبير للغاية على حساب بلادهم بـ «الحيتان». ويقال على نطاق واسع أنهم فوق القانون! وفي حديث إلى أحد هؤلاء “الحيتان”، وهو عملاق بناء عراقي، قال هذا الأخير أنه قضى سنوات في الدفع للسياسيين للحصول على عقود بقيمة ملايين الدولارات.

ووصف عالماً من صفقات الغرف الخلفية الساخرة التي تشترك فيها المنافسات القاتلة، وتتحول فيها التحالفات السياسية بسهولة وتكون العملة النهائية هي “النقد، دائماً بالدولار، والدفع دائماً مقدماً”.

وكان من الواضح أنه قبل الكسب غير المشروع، باعتبار واقعه اليومي، لم يشعر بأي قلق أو ذنب حيال ذلك. وكان لديه مكاتب ومنازل في بلدان متعددة، لكنه تحدث باللهجة العراقية الحزينة لرجل ليس لديه الكثير من التعليم.

وقد تحدث عن صفقة واحدة تمكن من إبرامها، وهو مشروع بناء كبير خصصت فيه الحكومة حوالي 40 مليار دينار (حوالي 33.6 مليون دولار)، حيث قال: «في الحقيقة أنفقت حوالي 10 مليار دينار على البناء». أما البقية، فقد ذهب معظمها إلى جيوب المسؤولين الحكوميين والحزبيين، إلى جانب نفقات أخرى. والباقي، حوالي خمسة مليارات دينار (4.2 مليون دولار)، كان ربحاً صافياً.

كما أكد أنه وخلال السنوات الست أو السبع الماضية، تم تعيين محافظي المحافظات العراقية – الذين يتمتعون بسلطة كبيرة على العقود – بشكل حصري تقريباً من خلال صفقات مع رجال الأعمال الذين يدفعون لمجلس المحافظة (الذي ينتخب المحافظ) مقابل حصة من عقود المحافظة.

لم يكن لديه خيار سوى الدفع للحصول على وظيفة في وزارة الكهرباء، التي كانت تدفع 375 دولاراً في الشهر.

واستطرد قائلاً: «أي شخص لديه المال يمكنه التلاعب بهذه الأشياء، فقد صيغت الصفقات بشكل متقن، حيث قام نواب المحافظون الموالون للأحزاب السياسية المختلفة بتقسيم العائدات المتوقعة من العقود الضخمة. كما أن عقداً كبيراً واحداً يمكن أن يوفر عمولات كافية لتغطية تكاليف الرشوة في انتخاب أي محافظ».

ويُضيف: «إن المسؤولين الحكوميين ليسوا مجرد متلقين سلبيين للرشاوى، فأعضاء مجلس المحافظة، يطرقون أبواب رجال الأعمال ويقولون: كيف يمكننا المساعدة؟ هل لديك شخص تريد تشويه سمعته؟ هل هناك مؤامرة تريد الترويج لها، أو شخص تريد إرساله إلى هيئة النزاهة؟ هذه الفنون المظلمة تتجاوز الولاء الحزبي».

«المال هو كل ما يهم. إذا كنت تريد التآمر ضد #حزب_الدعوة، فإن أعضاء مجلس المحافظة من هذا الحزب سيتعاونون معك إذا ما دفعت لهم»، يقول “الحوت” المذكور. ويتابع قائلاً: «في كل هذه الصفقات، هناك إحدى الميليشيات. وأي رجل أعمال أو أي مالك بنك لا تدعمه ميليشيا لن يتمكن من العمل».

وبالنسبة لأولئك الذين يراقبون من بعيد، كانت المظاهرات في الشوارع والتي اجتاحت مدن العراق في شهر كانون الأول الماضي تبدو وكأنها انفجار مفاجئ للغضب.

لكن في الواقع، كان هذا الغضب يغلي لسنوات في المدن والبلدات في جميع أنحاء البلاد.

يقول “موسى”، أحد قادة الاحتجاجات والبالغ من العمر 28 عاماً، أنه «اصطدم مراراً بوحشية اقتصاد العصابات في العراق، حيث تكون المؤهلات الحقيقية غالباً غير ذات صلة وتأتي معظم عروض العمل بسعر مبدئي كبير، أي ما يعادل راتب عدة أشهر».

ويعتقد الكثير منهم أن بلادهم أصبحت تابعة لإيران وبلطجية حاملي السلاح المحليين.

ويضيف: «بعد أن أمضى خمس سنوات في الحصول على درجة متقدمة في العلوم البيطرية، لم يتمكن من العثور سوى على وظيفة بيطرية واحدة فقط، عقد لمدة عام واحد يدفع له بموجبه 200 دولار شهرياً، وتم فصله منه بعد أن رفض عرض رئيسه بالانضمام إلى إحدى الميليشيات. ولم يكن لديه خيار سوى الدفع للحصول على وظيفة في وزارة الكهرباء، التي كانت تدفع 375 دولاراً في الشهر».

وقد بدأ تمرده قبل أكثر من عامين، عندما وجد وثائق تشير إلى أن المدير الإقليمي في وزارة الكهرباء أصبح ثرياً من خلال الحصول على رشاوى على العقود الحكومية.

وساعد “موسى” في تنظيم احتجاجات تطالب بإقالة رئيسه. وعلى مدار العام التالي، بدأ في إقامة اتصالات مع شباب آخرين في جميع أنحاء العراق لديهم تجارب مماثلة وتبادلوا مشاعره.

ويعتقد الكثير منهم أن بلادهم أصبحت تابعة لإيران وبلطجية حاملي السلاح المحليين. وبحلول صيف عام 2019، كان أرخبيل فضفاض من شبكات الاحتجاج المحلية يتحول إلى شيء أكبر، وكان “موسى” من بين المنظمين الذين نظموا دعوات التمرد الوطني الذي سيبدأ في الأول من شهر تشرين الأول.

بالكاد بعد أسبوع، وجد “موسى” نفسه جالساً على الأريكة مقابل رئيس الوزراء #عادل_عبد_المهدي. وكانت البلاد مشتعلة خارج أبواب الوزارة الخشبية. كان ما يزيد عن مائة شخص قد قتلوا خلال الاشتباكات مع الشرطة، وكان الاقتصاد في حالة جمود تام.

وبدا “عبد المهدي” يائساً لاستعادة حالة الاستقرار في البلاد. ودعا “موسى” وثمانية آخرين من قادة الاحتجاج للاستماع إليهم، قدّم “موسى” خلاله ورقة تحدد مطالب المحتجين. فقرأها “عبد المهدي” بصمت وعلى عجل. وكان التعامل مع الفساد أحد المطالب. وبعد تبادل قصير لأطراف الحديث، طلب أحد مستشاري عبد المهدي قائلاً: «أعطنا قائمة بأسماء الأشخاص الأكثر فساداً».

غضب “موسى” واحتار في أمره من ذلك الطلب. كان مدركاً بأنه سوف يتم إيقافه لدى أجهزة أمن الدولة، وسوف يضطر إلى الاختفاء بعد فترة وجيزة مثله مثل العديد من قادة الاحتجاج الآخرين.

وكان يعلم كذلك أن البعض من أكثر الشخصيات فساداً في البلاد قد رُحّب بها على الأريكة ذاتها من قبل. «تلك ليست مهمتنا، إنها مهمتكم»، أجاب “موسى” باقتضاب. فتوتر الجو وفُضّ الاجتماع فقط بعد عشرة دقائق. وأعلن رئيس الوزراء بعد ذلك مباشرة أن حركة الاحتجاجات كانت بلا قيادة. وكان يمكن قول الشيء ذاته عن حكومة “عبد المهدي” المتخبطة، وبعد أقل من شهرين، ومع مواجهة تمرد أوسع نطاقاً وارتفاع حصيلة القتلى، أعلن “عبد المهدي” استقالته.

كانوا يريدون تغيير النظام، إلا أن أي شخص تعامل مع هذا النظام، حتى لو كان بالنيابة عنهم، أصبح شخصاً مشتبه به مباشرة.

تفاجئ الجميع بعمق حركة الاحتجاج والغضب الشعبي. وكانت الميليشيات في موقع الدفاع للمرة الأولى منذ سنوات، حيث أشار بعض المتظاهرين إليهم بالبنان واصفين إياهم بعملاء إيرانيين، حتى أن بعض أعضاء #الحشد_الشعبي شاركوا.

وأقرّ #البرلمان_العراقي في شهر كانون الأول قانوناً تاريخياً يسمح من خلاله لهيئة النزاهة في البلاد أن تدقق دخل الموظف الحكومي لقاء أصوله وفرض غرامات كبيرة أو حتى فرض عقوبة السجن ما لم يتمكن الموظفين من تقديم مصدر شرعي لأموالهم.

وساهمت روح العناد في حركة الاحتجاج على إبقائها على قيد الحياة، على الأقل حتى قبل انتشار جائحة كورونا، لكن أيضاً بتأثيرات محدودة. ورفض المحتجون ترشيح أي شخص للمنصب مع مرور الشهور.

لقد كانوا يريدون تغيير النظام، إلا أن أي شخص تعامل مع هذا النظام، حتى لو كان بالنيابة عنهم، أصبح شخصاً مشتبه به مباشرة. أبطالهم الوحيدون كانوا رفاقهم الذين استشهدوا، الذين تظهر وجوههم في الملصقات والكتابات على الجدران في جميع أنحاء ساحات الاحتجاج.

وقد ظهر أحد القادة في وقت مبكر من الاحتجاجات، وهو “عبد الوهاب الساعدي”، أحد كبار مسؤولي مكافحة الإرهاب في العراق. إنه محبوب في جميع أنحاء البلاد ليس فقط بسبب سجله العسكري، حيث قاد سلسلة من المعارك الحاسمة ضد تنظيم  داعش، ولكن لأنه وحده تقريباً، من بين الضباط العراقيين، غير حزبي ويقال إنه لا يأخذ رشوة.

وفي شهر أيلول الماضي، قام رئيس الوزراء العراقي بتهميشه فجأةً، وسرعان ما أعلنه المحتجون كشهيد سياسي خسر لأنه لم يلعب اللعبة. و بدأوا في حمل ملصقات عليها وجهه وهم يرددون اسمه. وطالب البعض بترشيح الساعدي خلفاً لعبد المهدي رئيسا للوزراء.

وقال “الساعدي” حينها إنه رجل عسكري غير مؤهل لشغل منصب سياسي، فأصيب بعض المتظاهرين بخيبة أمل، لكن البعض الآخر كان مسروراً، حيث اعتبروا رفضه علامة شرف.

ويبلغ الساعدي من العمر 57 عاماً، وعلى الرغم من كونه شيعياً، إلا أن سكان الموصل، ذات الغالبية السنّية، يقدسونه كمحرر من تنظيم داعش، وفي العام الماضي أقيم تمثال له هناك. وقد قامت الحكومة العراقية، التي شعرت بأنها مهددة بهذه البادرة، بإزالة التمثال قبل أن يتم كشف النقاب عنه.

 

المصدر: (The New York Times)


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.