لا يملك المتظاهرونَ في العراق غير التصعيد السلمي، متمثلاً بأداة واحدة، هي زيادة الزخم البشري في ساحة التحرير ببغداد وبقية ميادين الاحتجاج في محافظات وسط وجنوب البلاد، وهذه الأداة الأصعب حالياً مع استمرار تفشي فيروس “كورونا” وتسجيل العراق معدلات عالية دفعتهُ أخيراً لاحتلال مركز متقدم بين البلدان شبه الموبوءة بالمرض.

يتفق متظاهرون على ضرورة عودة “الانتفاضة”، بهدف استمرار الضغط على حكومة مصطفى الكاظمي من أجل كشف قتلة المحتجين تحديداً، بعد أن حُدّد موعد الانتخابات المبكرة، وبالرغم من حراك بعض القوى السياسية للالتفاف حول الموعد بطرق مختلفة، إلا أن حكومة الكاظمي عازمة على تحقيقها.

لا يسأل كثيرٌ من المتظاهرين أنفسهم عن جدوى الاحتجاجات في الأسابيع المقبلة، ومدى الحاجة إليها وواقعية عودتها وأهميتها ومضامينها ونوعية هتافاتها وحجم إمكانية سلامة المتظاهرين من رصاص عناصر الأمن أو فيروس “كورونا”، كما لا يسألون عن مقدار الغلبة الذي سيحوز عليه المحتجون، طبعاً، لأن نتائج تكرار الزخم لا فائدة حقيقية منه، وأن كثيراً منهم لا يريدون من عودة الاحتجاجات غير عودة الاحتجاجات.

تمكّن الكاظمي بفترة قياسية أن يفي بواحدٍ من أكثر الوعود العسيرة لحكومته، وأعلن عن موعد الانتخابات ولو أنها متأخرة ولا تتناسب ومقدار الحماس الجماهيري للتغيير، إلا أن من العدالة ذكر إنجاز الكاظمي الأول لحد الآن، وأن مواجهة الأحزاب النافذة الرافضة لإجراء الانتخابات؛ وظيفة ليست بالهيّنة.

لا يسأل كثيرٌ من المتظاهرين أنفسهم عن هوية الجهة المقصودة من الهتافات ولماذا، هل التظاهر ضد الكاظمي وحكومته؟ قطعاً لا، فالرجل مستمر بعمله، ويُلاين الوضع المضطرب في البلاد ويُراوغ البرلمان الذي لا يشبهه.

هل ستكون التظاهرة ضد البرلمان؟ بالطبع لا، لأن مجلس النواب بحاجة خلال الفترة المقبلة لأكثر من جلسة، منها ما يرتبط بإنهاء اللمسات الأخيرة على قانون الانتخابات واختيار الصيغة التي من المفترض أن تناسب المحتجين قبل مصلحة الأحزاب، وجلسات أخرى خاصة بكورونا ولقانون مهم أقرّه مجلس الوزراء وينتظر مصادقة البرلمان، وهو قانون “العنف الأسري”.

أم سيهتف المتظاهرون ضد الفساد والمحاصصة وتمسك الأحزاب بالسلطة؟، أمرٌ وارد، ولكن المتظاهرين قبل غيرهم من شرائح الشعب، يعرفون جيداً أن حناجرهم وحدها لن تعالج هذه المشاكل.

من واجب النظام الحالي والأحزاب القابضة على الحكم، استكمال إجراءات الانتخابات المبكرة والتهيئة لها من حيث الميزانية المالية والخطة الأمنية، ومن واجب البرلمان عقد جلسات خاصة متعلقة باستكمال أمور خلافية مرتبطة بقانون الانتخابات فضلاً عن فراغ المحكمة الاتحادية ومعالجته، ناهيك عن مناقشة ملف الإشراف الأممي على عملية الاقتراع.

نزول المتظاهرين مرة أخرى للساحات، قد يعرقل عمل النظام الحالي على ما يخدم المحتجين وتطلعات الحراك الشعبي، وربما من الأفضل أن ينسحب المحتجون وأخذ قسط من الراحة والشروع بخطط سياسية انتخابية واعية ثم التوغل إلى البرلمان عبر قوائم وكيانات وتكتلات وأحزاب صغيرة.

لا يحرز البقاء رهن انتظار زوال النظام الحاكم عبر الساحات والاحتجاجات غير التأخير عن بلوغ مرحلة التغيير، لأن الترتيب للانتخابات المبكرة لا يمكن إلا من خلال مؤسسات النظام الحاكم حالياً، كما أنها فرصة لإحصاء إخفاقات جديدة وفضائح.

في المرحلة المقبلة، ستشهد الساحة العراقية حراكاً جديداً غير حروب الأحزاب الفاسدة والكيانات الطائفية، السباق في العراق الحديث سيكون بين جبهتين قويتين، الأولى: تريد وطناً ولا تعتقد بغيره، المؤمنة بالهوية الوطنية الأصلية والجامعة، أما الجبهة الثانية: المؤمنة بنهب الوطن واستعباد الشعب والهويات الفرعية، ولا يمكن نكران أن الجبهة الثانية ليست أقل قوة من الأولى، ولكن لكل واحدة مصادر قوتها وشرائعها.

بحسب معلومات توفرت أخيراً، فإن الأحزاب التقليدية في العراق، تمكنت خلال الأسابيع الماضية من تسجيل أكثر من /50/ كياناً سياسياً جديداً بأسماء مدنية وأخرى علمانية وبعضها “ولائية” لدخول الانتخابات المبكرة كظلٍ إبداعي لأحزاب السلطة في البلاد.

وتبدو هذه الكيانات واثقة من نفسها أنها ستتمكن من خداع العراقيين مجدداً، وهنا يتأكد أن لا خيار أمام المحتجين غير الانتظام السياسي.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.