أدى انفجار  بيروت في الرابع من أغسطس آب الجاري، وهو أحد أقوى التفجيرات غير النووية في التاريخ، إلى تدمير الأرواح وتدمير المدينة، لتزداد كثافة مطالب التغيير في بلدٍ يحتاج بشدة إلى إصلاحٍ جذري.

وفيما أدت موجة من الغضب الشعبي إلى استقالة الحكومة، التي كانت تتألف في الأساس من تكنوقراط اسميين مدينين لائتلاف برلماني مؤيد لحزب الله، لكن هذه الاستقالة قوبلت بترديد المتظاهرين لهتاف “ثورة”، ليوصلوا من خلاله رسالة واضحة أنهم لا يريدون مجرد انتخابات مبكرة على أساس النظام الانتخابي القائم، بل أنهم يسعون إلى تغيير جذري من الألف إلى الياء.

لكن مع الأسف لن يكون ذلك ممكناً مالم يتمكن لبنان من حل مشكلته الأساسية وهي دور حزب الله في الحياة السياسية والعسكرية اللبنانية، وإيجاد مخرج من مخالب الحزب المطبقة على حياة لبنان واللبنانيين.

مرّ أكثر من 30 عاماً منذ أن أدت نهاية الحرب الأهلية في لبنان إلى ولادة ترتيب دستوري جديد يقسم السلطة بين الجماعات الدينية الرئيسية في البلاد. هدفت اتفاقية الطائف لعام 1989 إلى منع أي طائفة من السيطرة على البقية.

لكن في السنوات التي أعقبت ذلك، أنتجت شللًا مزمنًا، وأخيراً، انهياراً اقتصادياً. كما أنجبت «وحشًا برأسين»- ميليشيا قوية (حزب الله) جمعت بين أدوار حزب سياسي شرعي ومافيا حاكمة تغذي الدولة.

يدور جدلٌ ساخن بين العديد من اللبنانيين حول أفضل السبل للتعامل مع هذا «الوحش». يصرّ البعض على أنه لا يمكن تحقيق أي تقدم حتى يتم نزع سلاح الميليشيات. ويعتبر آخرون أن حزب الله قويٌ جداً لدرجة يبدو فيها التخلص من سيطرة الحزب على لبنان هو حلمٌ بعيد المنال إلا بمعجزة.

يدرك الكثيرون أن ازدواجية المافيا والميليشيات في لبنان هي شيءٌ واحد، وإن كانت أحزاب الحرب الأهلية “المسيحية أو السنة منها” قد فصلتها نوعاً ما، لكن حزب الله مع بعض الأحزاب المتطفلة في ما يسمى “محور المقاومة” استغلت الفراغ الميليشياوي وضعف الدولة المركزية، حتى تستحوذ على مقدرات إدارية إضافية داخل المؤسسات لتضيفها إلى أدوات السيطرة والإدارة، بحيث و تحت غطاء “دعم المقاومة” يكافئ المؤيدين بالسماح لهم بالالتفاف على الجمارك في الموانئ والمطارات.

إعادة إحياء الدولة اللبنانية وكبح حزب الله، أمرٌ صعبٌ جداً، فهو يتطلب إصلاحاً شبه كامل للهياكل السياسية المتهالكة في لبنان. ويشمل ذلك تنفيذ أحكام الدستور التي تم تجاهلها منذ فترة طويلة من قبل كل الزعامات اللبنانية بدون استثناء.

وحيث أنه بات واضحاً أنه، وحتى مع ضمان حدٍّ معين من اللامركزية السياسية والادارية، فإن ذلك سوف يدعم موقف حزب الله في العديد من المناطق اللبنانية بل بالأحرى سوف يقويه.

ستصرّ النخب السياسية في لبنان، من بينها حزب الله، على أن مثل هذا التغيير الدستوري يظل مستحيلاً في بلدٍ منقسم بشدة. ويفضل السياسيون قبول حكومة جديدة وإجراء انتخابات مبكرة ضمن الإطار السياسي القائم، على أمل أن يمتص الغضب العام مع الحفاظ على نظام المصالح الضيقة الراسخة.

لكن الناس في شوارع بيروت يعرفون هذه التمثيلية على حقيقتها وهم مصممون على تدميرها. و كبادرةٍ رمزية، علقوا المشانق في الساحة الرئيسة بالمدينة- شعارات العقوبة التي يقولون إنها تستحق من قبل جميع الرؤساء السياسيين في البلاد، بغض النظر عن دينهم أو انتمائهم السياسي. وسرعان ما أشعل أنصار حزب الله النار في المشنقة المؤقتة، وربما شعروا بالمخاطر التي تشكلها عليهم مثل هذه الصحوة الوطنية.

تُظهر الولايات المتحدة وفرنسا الآن اهتماماً كبيراً بلبنان، ربما لأنهما تدركان عدم الاستقرار الإقليمي الذي يمكن أن يؤدي إلى انهياره. فكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أول زعيم عالمي يزور المدينة المدمرة.

كما اتصل الرئيس ترامب بنظيره اللبناني ووعده بتقديم مساعدات إنسانية، لكن يجب أن يكونوا حريصين على عدم تمكين حزب الله والساسة الذين قادوا البلاد إلى أحلك أوقاتها من السيطرة أو استغلال حاجة الناس.

يمكن أن يولد لبنانٌ جديد، برعايةٍ أميركية وفرنسية، وفقاً لتطلعات شعبه. تتمتع واشنطن وباريس معاً بنفوذ كبير، لا سيما بالنظر إلى حاجة لبنان الماسة إلى مساعدة مالية طويلة الأجل.

يضغط الفرنسيون من أجل المصالحة بين جميع الأطراف، ويبدو أن فرنسا تتولى زمام المبادرة في الوقت الحالي، كما يتضح من الزيارة الرمزية التي قام بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى بيروت عقب الانفجار، تلتها خطوته السريعة لبدء اجتماع المانحين الدوليين يوم الأحد.

وقد تعهدت الدول بالفعل بأكثر من 250 مليون يورو (حوالي 300 مليون دولار). مع تعهد كل من الرئيس الفرنسي ووزير الخارجية الألماني بتقديم المساعدات بشكل مباشر إلى الناس عبر مؤسسات الأمم المتحدة ومنظمات المجتمع المدني. وأنه لا لدعم لحكومة لدولة يسيطر عليها حزب الله.

والآن بعد أن تم تدمير بوابة فاطمة مع باقي مرفأ بيروت، سينقل حزب الله عمليات التهريب إلى المطار في جنوب بيروت وربما إلى الموانئ الصغيرة في صيدا وصور. تحتاج أجهزة المخابرات في جميع أنحاء العالم إلى التركيز على هذه المواقع، ولكن أيضاً على المطارات السورية وعلى “بوابة فاطمة” الثالثة: تلك الواقعة بين سوريا ولبنان.

إن قدرة حزب الله على استبدال بيروت بالمواقع المذكورة أعلاه، هي سبب بقاءه القوة الأقوى في لبنان رغم الضرر الذي لحق بمرفأ بيروت. وهو قادر على إبقاء السيطرة على الرغم من الأزمة الاقتصادية والسياسية في لبنان. فآلام اللبنانيين تجعل من السهل على حزب الله أن يستغل ضمير العالم ويغوص في جيوبه، وخاصة قطر.

استطاع حزب الله من الاستفادة من أوجاع ودماء اللبنانيين في التوسع والنمو داخل النظام الاقتصاد الريعي اللبناني، فبعد حرب تموز، التي دمرت ما دمرت، استطاع حزب الله من الاستفادة من التعاطف الإقليمي والدولي مع المدنيين اللبنانيين ليكون هو مصدر توزيع المعونات وإعادة إعمار بعض المناطق المتضررة.

واستطاع من خلال شبكة الجزيرة وبعض منابر الإعلام المعتلي لمنبر المقاومة، من بناء صرح سياسي وشعبي كبير، لتكون دماء المدنيين اللبنانيين وقوداً يغذي حركة الحزب ومصدر تمويل إضافي يسيطر فيه على بسطاء اللبنانيين وبعدها تجار المخدرات والمهربين.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.