بعد تضحياتٍ جِسام قدّمتها شعوب شمال وشرقي سوريا في مواجهة نيران الحرب السورية منذ ما يزيد عن تسع سنوات، حيث آلاف الضحايا، وعشرات آلاف المهجّرين قَسراً من منازلهم في عفرين وشرقيّ الفرات، باتوا الآن أكثر خشية على مستقبل منطقتهم التي يبدو أنها وصلت لمفترق طرق، حدّه الأقصى نهاية هذا العام، موعد تسلّم الإدارة الأميركية السلطة المنبثقة عن انتخابات تشرين الثاني القادم.

فاجأ السيناتور الأميركي “ليندسي غراهام” الجميع عند إعلانه عن إبرام شركة (دلتا كريسنت إنيرجي) النفطية الأميركية صفقة مع قوات سوريا الديمقراطية لتحديث حقول النفط في شمال وشرقي سوريا.

الصفقة جاءت برداً وسلاماً بالنسبة للمراهنين على البقاء الأميركي في مناطق شمال وشرقي سوريا، وزاد من حماسهم لاستكمال الحوار الكُردي الكُردي الذي يجري برعاية قيادة قوات سوريا الديمقراطية، حيث وصلت إلى مراحل متقدمة تمثلت بالاتفاق على رؤية سياسية موحدة لكُرد سوريا، وصولاً إلى إنشاء مرجعية سياسية خاصة بهم، في طريق تحالفات أخرى مع مكونات المنطقة في وقت لاحق.

الصراع في دير الزور، يضع «قسد» في موقف لا تحسد عليه، فالمدينة التي قُسِّمَت بفعل التوافقات الأميركية الروسية، أصبحت في شقّها الشرقي منه عامل توتر دائم في الإدارة الذاتية.

الحضور الأميركي في الحوارات الكُردية الكُردية، هو عبر دبلوماسيين غير رفيعي المستوى في وزارة الخارجية، وهو ما يضع إشارات استفهام عديدة حول امتناع الولايات المتحدة عن المشاركة بثقلها السياسي في دعم الإدارة الذاتية، والاقتصار دائماً على التعاون مع الجانب العسكري.

الزيارات العسكرية لمسؤولين كبار من وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) إلى مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، والدعم العسكري الأميركي الكبير لها، وكذلك توقيع عقد النفط مع قيادة “قسد” تحديداً، يَشي بجنوح الإدارة الأميركية إلى الاقتصار في التعاون مع سلطات الإدارة الذاتية على الجانب العسكري وحسب، دون أن يوازيها أي دعم دبلوماسي.

وهو ما يستشف بسهولة عند متابعة تصريحات المسؤولين الأميركيين الذين يكيلون المديح لقوات سوريا الديمقراطية، ويوجهون الدعوات لقائدها “مظلوم عبدي” لزيارة واشنطن، دون أي حماس يذكر لاستقبال المسؤولين السياسيين في الإدارة الذاتية، أو مجلس سوريا الديمقراطية (الذراع السياسية لـ “قسد”) وهو ما يزيد المخاوف من تخلِّ الولايات المتحدة عن المنطقة لصالح تركيا أو روسيا، كما حدث أواخر العام الماضي.

الصراع في دير الزور هو الآخر يضع قسد في موقف لا تحسد عليه، فالمدينة التي قُسِّمَت بفعل التوافقات الأميركية الروسية، أصبحت في شقّها الشرقي منه عامل توتر دائم في الإدارة الذاتية، منذ خروجها من سلطة تنظيم “الدولة الإسلامية” ربيع العام 2019 ومذ ذاك، والتوتر الأمني سيد الموقف فيها، والاحتجاجات الشعبية تكاد تكون زاداً يومياً لأهالي المدينة التي تتمتع بنفوذ عشائري قوي، وغياب التنظيمات السياسية المعبرة عنها.

العقد النفطي الأميركي سيوفّر موارد اقتصادية جيدة للإدارة الذاتية في مواجهة تداعيات «قانون قيصر» الذي دخل حيّز التنفيذ تموز الماضي.

وما اغتيال عدد من الزعامات العشائرية الكبيرة في المدينة؛ سوى حلقة في سلسلة أحداث يشهدها الجزء الشرقيّ من المدينة، المُدارة مدنياً من مجلس دير الزور المدني، وعسكرياً من مجلس دير الزور العسكري التابع لقوات سوريا الديمقراطية، ويواجه “المجلس” حملة ضغوط شعبية للانقلاب على “قسد”.

يبدو أن تعامل قوات سوريا الديمقراطية مع أزمة دير الزور، لن يفضي إلى انفراجة قريبة، والضغوط عليها تزداد، وخاصة من الولايات المتحدة التي تعوّل على استقرار الأوضاع الأمنية، كي لا تصبح المنطقة هدفاً سهلاً للتدخلات الإيرانية والحكومية السورية فيها، وهما، برفقة موسكو، لا ينفكون عن استخدام ورقة العشائر لتأليب المنطقة ضد الأميركيين وقوات سوريا الديمقراطية.

رهان “قسد” على خيار وحيد هو بقاء الولايات المتحدة في المنطقة، ينطوي على مخاطر جمّة، فواشنطن لا تنفكّ تعلن أن وجودها في المنطقة مؤقت.

تريد قيادة “قسد” التخلص من هذه الأزمة، والتفرغ لترتيب البيت الداخلي الكُردي بداية، والبيت الجزراوي في مرحلة لاحقة، تمهيداً لاستقبال عهد جديد من الإدارة الذاتية، سواء أُعيد انتخاب الرئيس الحالي دونالد ترامب، أو انتخاب “الديمقراطي” جو بايدن، الذي خرج بتصريحات لاذعة ضد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، متوعداً إياه بالسعي لإسقاط حكمه في حال انتخابه رئيساً للولايات المتحدة، وهو الموقف الذي تعول عليه “قسد” في قادم الأيام.

العقد النفطي الأميركي سيوفر موارد اقتصادية جيدة للإدارة الذاتية في مواجهة تداعيات قانون قيصر الذي دخل حيّز التنفيذ الشهر الماضي, ومن المتوقع زيادة حدّته خلال الأشهر القادمة، خاصة إذا ما بقيت الحكومة السورية في نهجها الرافض للانخراط في التسوية السياسية وفق المنظور الأميركي، وكذلك الابتعاد عن إيران.

رهان “قسد” على خيار وحيد هو بقاء الولايات المتحدة في المنطقة، ينطوي على مخاطر جمّة، فواشنطن لا تنفكّ تعلن أن وجودها في المنطقة مؤقت، وهو مرتبط بالوجود الإيراني في سوريا، ومحاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، والوصول لحل سياسي وفق قرار مجلس الأمن 2254 وهذا الكلام في الميزان السياسي يعني بشكل جليّ أن واشنطن ستتذرع بالبقاء في سوريا لمحاربة تنظيم الدولة، وحماية المنشآت النفطية من وصول التنظيمات الإرهابية عليها، بهدف الضغط على روسيا لإخراج القوات الإيرانية، والميليشيات الموالية لها من سوريا، أو على الأقل تحجيم دورها.

السيناريو العفريني ماثلٌ أمام أعين الجميع، وبالتأكيد لا أحد يرغب في تكراره.

وهي بالتالي مستعدة لخنق الحكومة السورية اقتصادياً عبر منعها من استخدام النفط السوري، وأيّة موارد اقتصادية من مناطق الإدارة الذاتية، وكذلك إعاقة الحلول السياسية إلى أن تلتزم موسكو بتحقيق هدفها آنف الذكر، وهي بالتالي ستضغط لإرغام الجميع على تسوية سياسية تُفضي إلى حكومة جديدة، لا شروط أميركية عليها سوى أن تتعهد بالخروج من العباءة الإيرانية، وستضمن التعويم السياسي الدولي لها، والانفتاح على إعادة الأعمار الذي سـ يلي الحل السياسي.

الانفتاح العسكري والاقتصادي الأميركي على المنطقة، هي فرصة ذهبية من المفترض أن تقتنصها “قسد” للوصول إلى حلّ سياسي واقعي ينهي شبح الاحتمالات السوداء التي من الممكن أن تواجه المنطقة، والسيناريو العفريني ماثل أمام أعين الجميع، وبالتأكيد لا أحد يرغب في تكراره، والوصول إلى هذا الهدف بحاجة إلى قَدْرٍ كبير من الحصافة السياسية التي لا تقلّ صعوبة وأهمية عن الانتصارات العسكرية.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.