القَسوة أنَّك لا تمتلكُ بيتاً، لذا يعمل الكثير على تحقيق حلمه ببناء منزلٍ يكون وطناً صغيراً داخل بلده الكبير، ومنطلقاً لتحقيق ذاتيتهم، طموحاتهم، تطلعاتهم وإنسانيتهم، رغم كونه أبسط الحقوق، لذا نجد المواطن البسيط متمسّكاً بهذا الحلم، مُتحدّياً صعوبات العيش وضيق الفرص.

على الجانب السياسي، أنشأت بعض القِوى، عَقِب سقوط النظام السابق، بيوتاً لها، ليس كمقراتٍ حزبية؛ بل كأيديولوجيات طائفية وقومية ومناطقية، لكن هذا التأسيس لم يكن الغرض منه أن يتحوّل البيت خادماً لأهله؛ بل مساحةً لابتلاع حقوق المكوّنات من جهة واضطهادها من جهةٍ أخرى.

فكان المهندس الخارجي، يُدرك حقيقة المشروع والهدف لهذه الطبقة، فصنع الخطوط والخرائط ونجح بدرجةٍ عالية في ذلك وفي القدرة على التنفيذ واستكمال البناء.

البيت الشيعي والبيت السُّني والبيت اَلْكُرْدِيّ، مصطلحاتٌ أفرزتها الديمقراطية التوافقية وهي غير موجودة بالقاموس السياسي للفرد العراقي المعجون بظلم القواميس والسلطات، وتعايَشَ معها كمرحلةٍ انتقالية يمكن أن تُعوّض له هذه البيوتات سنوات استئجارات الدم وضياع الهوية.

لكن صراع الاستحواذ بين الزعامات ومحاولات احتكار النفوذ والمال والثأر، أوهم هؤلاء على أنهم الممثلين الحقيقيين لتلك البيوتات، لتجعل أبناءها يخوضون معركة الدفاع  «الوهمي» عنها، فكانت النتيجة عنفاً طائفياً امتد لسنوات وخنادق بين المكونات والمدن.

كانت لحظة الانتصار على تنظيم داعش، نقطةً فاصلة وقرار شعبي بترك البيوت وأربابها، والانطلاق نحو البيت الوطني الجامع لكل العناوين والطموحات، باستعادة الدولة والعدالة وتكافؤ الفرص وكسر طوق عبودية زعامات الطوائف والقوميات، فتصدّعت جدران تلك البيوت وأصبحت غير جاذبة لمن يبحث عن وطنٍ وحرية، وحتى الأصوات داخلها، لم تعد تجد ذلك الصدى المسموع.

جُزءٌ أساس من محفِّزات ثورة تشرين/أكتوبر 2019، كانت بسبب أخطاء وسوء إدارة زعامات هذه البيوت للدولة ومؤسساتها، إذ اكتشفت الأجيال الشابة أن مهمتها إعادة رسم الخرائط ووضع الأسس الصحيحة لأيّ بناءٍ جديد.

وهذا كان مصدر قلقٍ كبير لطبقة البيوت والعوائل السياسية، التي وجدت بأنه إذا ما انتصر أبناء البيت الوطني، فهي شهادة وفاة لهم وخروج عن الخدمة والخدمات.

كانت  «وثيقة الشرف» التي دفعها البيت السياسي الشيعي، رغم رفض “الصدر” وتحفّظ “العبادي”، لإنقاذ حكومة عبد المهدي «المُقال شيعياً»، محاولةً لإحياء البيت الشيعي المقدّس خارج رغبة مرجعية النجف، بدعمٍ إيراني كبير والتي انتقلت طهران بهذا الدعم إلى تحفيز قيادات سنية لإعادة هيكلة البيت السُّني ونجحت إلى حدٍّ ما؛ رغم تباين الآراء وكسر الإرادات والأمر أيضاً امتد للبيت السياسي اَلْكُرْدِيّ الذي بات أقرب للخلاف منه للتماسك.

بإقالة عبد المهدي، سقطت محاولة إعادة الروح وإنعاش الحياة لهذه الهياكل والجدران والأبواب الصدئة، لكن أصحاب البيوت يرفضون حكمة الرئيس الأميركي السادس عشر “أبراهام لينكولن” التي تقول: «إن البيت المنقسم على نفسه لن يصمد».

بل أكثر من ذلك، أخذوا يعملون على تقديم كل التسهيلات لبعضهم البعض للاستمرار والنهوض مجدداً، لذا تجد الحراك السياسي الشيعي والسُّني وَالْكُرْدِيّ الداخلي الذي يبدأ من بغداد مروراً بأربيل لينتهي خارجياً لغرض الدعم والاستقواء، يتركز حول إعادة التموضع في هذه البيوت ومواجهة البيت الوطني «قيد التأسيس» بشتى الإعاقات السلطوية وإنهاء أي مساحة لتواجد هذا البيت ضمن البيوت الأخرى.

على الأرجح فإن الزعامات والطبقة السياسية التقليدية، لم تستوعب حقيقة التحوّل الكبير في الوعي والنضج لدى المجتمع العراقي التّوّاق إلى نمطٍ عمراني حديث، لبناء مستويات الحياة السياسية والاقتصادية والمجتمعية والثقافية لبناء المستقبل، ولم يُدرك أرباب البيوت القديمة أن هناك خرائط إرادة تتمسّك بالحرية والسيادة والاستقلال على حساب خرائط التبعية، وعليهم الإيمان بعدم نجاح محاولاتهم، رغم كل ما يملكون لترميم البيوت المُهدّمة.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.