يتميز الإنسان عن غيره من الكائنات الحية، بكونه “مفكر”، أي أنه قادر على إدراك الوقائع من حوله وتحليلها وبناء أفعاله على النتيجة المستخلصة من فهمه لهذه الوقائع، وبهذا الشكل تتسم أفعاله بأنها أفعال حرة واعية، قام بها نتيجة وعيه للظروف وحريته في اختيار ما يناسبه، والسؤال الذي يواجهنا هنا هو، ” لأية درجة الإنسان حر بأفعاله في الحقيقة، وهل هناك فرق في هذه الحرية بين الرجل والمرأة”؟

تبدأ حياة كل فرد بمرحلة الطفولة والتي هي عبارة عن فترة تلقي، يكتسب الفرد في هذه المرحلة أشكالاً كثيرة من السلوكيات، وتبدأ بنيته النفسية بالتشكل بناءً على ما يقع عليه من تربية والديه ومن ثم المجتمع، وتنتظم أفعاله وفق سياق محدد يحاكي فيه حياة من حوله من الكبار، تدخل ضمنه الأخلاقيات العامة والعادات والقوانين الأسرية، وقوانين المدارس والنظام وجميع أشكال السلطات، ثم يعيد تشكيل وعيه الخاص بتبنيه لما تلقاه في صغره أو رفضه، والمرأة بوصفها فرداً من هذا المجتمع تتلقى بدورها نوعاً خاصاً من التربية والأوامر والنواهي، المسموحات والمحظورات، لينتهي أمرها بهذه الصورة المنتشرة في مجتمعاتنا للمرأة، تابعة للرجل وخاضعة لقوانينه.

التربية وتأثيرها في حياة المرأة

هناك فوارق واضحة بين تربية الطفل والطفلة في مجتمعنا، يعود ذلك إلى حالة تراكمية من الأحكام على المرأة ودورها، تبعاً للدين والأخلاق العامة وبعض العادات القبلية، تتلقى الطفلة منذ صغرها مجموعة من القوانين التي يتوجب عليها الالتزام بها، بداية بقوانين اللعب وانتهاء بقوانين التحدث، وما يجب أن تفعل وما لا يجب فعله، لتصل إلى مرحلة المراهقة مكبلة بقيود تكبرها، تواجه سنينها الحرجة بضياع بين رغبة في الفكاك من قيودها وروادع مجتمعية تمنعها من ذلك، لتصل سن الشباب وتعيد حكاية أمها في الحياة، مقتنعة بأن مصير أي فتاة هو الزواج وتربية الأطفال وحتى إن نالت نصيبها من التعليم، فهذا فقط لتساعد به زوجها في تعليم أطفالها وزيادة دخلهما، دون طموح أكبر من ذلك، بالتأكيد هناك فتيات يستطعن كسر الحواجز المجتمعية والعائلية، وممارسة ذواتهن بشكل مختلف عما تفرضه عليهن التقاليد، وينجحن في تحقيق طموحهن بعيداً عن المعيقات، إلا أن أفعالهن في معظمها تتسم بأنها ردود أفعال عنيفة على القمع الممارس عليهن، وبذلك تبتعد سلوكياتهن عن الأصالة، فهي ليست أفعالاً حرة نابعة من صفات أصيلة في بنيتهن النفسية، وإنما هي عبارة عن سلوك مناقض لما فرض عليهن من الخارج.

الوعي ودوره في حياة المرأة

أثبتت نظريات علم النفس أهمية التربية بشكل عام، وتحديداً السنوات الأولى في حياة الفرد وكيفية تأثيرها على سير حياته، فالتقنيات الممارسة من قبل الأهل والمجتمع لإخضاع الطفل وتعليمه أنماطاً معينة من السلوك تترسخ عميقاً في لاوعيه، لتشكل المنبع الذي تأخذ منه شخصيته فيما بعد قرارتها وأحكامها وتصرفاتها، وفي مجتمع تحكمه أخلاقيات صارمة كالمجتمع السوري، تتعرض الفتاة لشتى أنواع القمع والإكراه على أفعال لا تقارب صفاتها الإنسانية بشيء، وباعتبار أن الكائن البشري يتصف بالطاعة وخاصة عندما تكون السلطة التي يطيعها قوية وقادرة على التحكم بمصيره وتمثل حالة مجتمعية كاملة، لا يبقى أمام الفتيات سوى الخضوع والامتثال للأنماط الحياتية التي فرضت عليهن ورسخت في دواخلهن لتصبح جزءاً من تركيبتهن النفسية، مع الإيمان الكامل من قبل الكثير من هؤلاء النسوة بأن هذا النظام الحياتي الذي يخضعن له، هو ما وجدن لأجله، وأن جوهر حياتهن عيشه بتفاصيله و أي خلل  في الخطة التي وضعت لهن هو دليل على عدم كفاءتهن، فمثلاً تُعتبر معظم الفتيات في مجتمعنا بلوغها سناً معيناً دون الزواج حالة مخجلة وحرجة، وينسحب هذا الحكم على الكثير من الأفعال الأخرى.

ليس من السهل الخلاص من هذا الخضوع، خاصةً وأنه أصبح جزءاً ثابتاً في شخصية المرأة، تتمسك به وتدافع عنه دون وعي منها بأنه مكتسب ومفروض عليها، والفكاك منه يبدأ من اللحظات الأولى لوجود المرأة والكلمات الأولى التي تتلقاها والأفعال التي توكل إليها من بداية حياتها، عبر إعادة تشكيل للوعي والمنهجية المتبعة في التربية والتعليم في مجتمعنا، والتنبه لأهمية الوسط المحيط بالطفلة وانعكاساته على شخصيتها، وضرورة فهم البنية النفسية لأي فرد، وما العوامل التي تشكلها تباعاً وتؤثر بها.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.