تقول الرواية، إنّ رَجُلاً قد تَواجدَ في معركة “صِفّين” التي وَقَعَتْ بين الخليفة الراشديّ الرابع عليّ بن أبي طالب، ووالي الشام حينذاك، والخليفة الأمويّ الأول بَعْدَئذٍ، معاوية بن أبي سفيان، وكان الرجل يصلّي خَلْفَ عليّ عند حلول وقت الصلاة، ويأكل من مائدة معاوية وقت الطعام.. ويجلس على الجبل عند بِدء القتال بين المعسكرين.. وعندما سُئِلَ عما يفعله قال: “الصلاة خَلْفَ عليّ أقْوَم وأتَمّ، والطعام مع معاوية أدْسَم، والجلوس على الجبل أسْلَم” ضارباً بذلك أمثولة في امتهان الانتهازيّة واللعب على عِدّة حِبال، وعدم الركون إلى أيّ خَيار في الحياة.

ويبدو أنّ مثال الرجل ذاك لا يقتصر عليه لوحده، بل خَلَفَه في ذلك كثيرون، ومنها دول ارتأت اللعب على سياسة الانتهازية، واستثمار المتناقضات بين الأطراف المتنازعة، سعياً للحصول على مكان ما بين الكبار، ويمكن تصنيف تركيا كمثال أبرز في هذه الحالة، خصوصاً في موقفها في مرحلة الحرب السوريّة الممتدة منذ آذار العام 2011 وما بعدها

فتركيا “العدالة والتنميّة” الأطلسيّة، لَم تَقطع شعرة معاوية مع حلفائها في “الناتو” رغم التباينات الكبيرة بينهم في مقارباتهم لشكل التعامل مع الحرب السوريّة، لكن، وبرغم ذلك، نَسَجَت علاقتها الخاصة مع روسيا الاتحاديّة ورئيسها الطامح، بقوّة، لعودة سياسة الأقطاب الدوليّة “فلاديمير بوتين” في محاولة من أنقرة لحَجْزِ مقعد لها بين كبار الدول المؤثرة في المنطقة، منافسة بذلك دور القوتين العظميتين، الولايات المتحدة وروسيا.

وكذلك فإن تركيا أردوغان حَوّلت البلد العَلمانيّ الذي مَكنّت ديمقراطيته الهشّة، حزبه ذو التوجه الدينيّ من الوصول للسلطة، إلى رأس حربة مشروع مذهبيّ بقيادة جماعة الإخوان المسلمين، عن طريق الركوب على موجة الاحتجاجات الشعبيّة في الدول العربيّة أواخر العام 2010 وتحويلها إلى ساحة حروب بالوكالة، بهدف السيطرة على الشرق الأوسط الذي تطمح من خلاله تركيا إلى إعادة أمجاد الإمبراطوريّة العثمانيّة، والتي لا تزال تعيش عدد كبير من شعوب المنطقة مآسٍ خلّفتها السياسات التمييزية، والإبادات التي ارتكبتها “الدولة العثمانيّة” بحقّ عدد من شعوب المنطقة.

منّت تركيا نفسها بأن تصبح قوّة عظمى كأمر واقع عن طريق تمييز نفسها عن الانخراط الكامل في أيّ حِلْف، كما كان بها الحال طوال عهد الجمهوريّة التركيّة، فقد كانت أنقرة جزءاً فاعلاً من محور “الناتو” والحليف الأوثق لإسرائيل في منطقة الشرق الأوسط، لكن تغيّر الحال بعد العام 2011 فقد ارتأت القيادة التركيّة أنّ بإمكانها أنْ تلعب على وتر مظلوميّة الفلسطينيين، واستغلال حركات المقاومة في خدمة المشروع الإخوانيّ الشرق الأوسطيّ، دون أيّة مساندة فعليّة للقضيّة الفلسطينيّة.

مُذ ذاك، والرئيس التركيّ يُدْخِل بلده في أتون الصراعات الطائفيّة في منطقة الشرق الأوسط الموبوءة بجائحة الطائفيّة الدامية منذ مئات السنين، وأرسلت العشرات من السوريين إلى ليبيا لمساندة الحكومة الليبيّة المُسيْطَر عليها إخوانيّاً، في استغلال واضح لمأساة الشعب السوريّ، وإقحامه في حروب عبثيّة لا تعنيه، لا بل أصبح سِمَة “المُرتزقة” ملاصقة لعديد المعارضين السوريين الذين أجبرتهم أنقرة أنْ يتخلّوا عن أيّ هدف لهم في بلادهم، واللهاث وراء وهم إمبراطوريّة متخيّلة تسعى الحكومة التركيّة لزرعها في قلوب الشعوب الإسلاميّة.

الرهان التركيّ على حَجْزِ مقعد له بين كبار القوى العظمى؛ كلّفه غالياً، فكان العقاب الروسي له قاسياً بسبب إسقاط أنقرة طائرة (سوخوي) روسيّة عام 2015 وشكّلت نقطةً فاصلة في علاقات البلدين، بدأتْ من إجبار بوتين نظيره التركيّ على الاعتذار باللغة الروسيّة عن إسقاط الطائرة، في إهانة منقطعة النظير، واضطرّت أنقرة لاحقاً أن تكون جزءاً من مسار تفاوضيّ عسكريّ، ومن ثم سياسيّ، مع كل من الخصمين السابقين روسيا وإيران في ما سُميَّ لاحقاً بمسار أستنة، والتي نَتَجَت عنه اتفاقات خفض تصعيد في عدّة مدن سوريّة، كانت نتيجتها فيما بعد تسليم عدد من معاقل المعارضة، للحكومة السوريّة كما حدث في كلّ من حلب وريف دمشق، إضافة لريفيّ حماة واللاذقيّة مقابل إطلاق يدّ أنقرة لمهاجمة مناطق الإدارة الذاتيّة، وإفشال أي حُكِم محليّ يكون للكُرد فيه دوراً فاعلاً.

العقاب الأميركيّ لم يَكُن بأقلّ من الروسيّ، فقد ضغطت إدارة الرئيس دونالد ترامب على الحكومة التركيّة، نتيجة تعاونها مع موسكو ودعمها، ورعايتها لعدد من الفصائل المتطرفة، بالإضافة لقضيّة اعتقال القسّ الأميركيّ روبنسون، إلى أنْ أَجبَرت واشنطن، أنقرة على إطلاق سراحه بعد عامين من الاعتقال، فدعمت واشنطن محاولة الانقلاب التركيّ عام 2016، وترفض تسليم المعارض التركيّ فتح الله غولن، وتضغط بشدة على الاقتصاد التركي، الأمر الذي ألحق ضرراً بالغاً به، وكذلك تدعم عسكريّاً قوات سوريا الديمقراطيّة، رغم معارضة أنقرة الشديدة لها.

يبدو أنّ عِقاب تركيّا لن يقتصر على ذلك وحَسب، فجمهورية “العدالة والتنمية” باتت عنصر إزعاج لعديد من الدول الأوروبيّة ومنها فرنسا التي تعترض بشدّة على التدخّل التركيّ في ليبيا، وكذلك اليونان، حيث أرسلت أنقرة سفينة استكشاف للتنقيب عن الغاز، في منطقة متنازع عليها مع أثينا، مما دعا الأوروبيين لاتّخاذ موقف ضاغط على أنقرة ما اضطرها للتراجع عن خطوتها تلك.

من الواضح أنّ تركيّا غير راغبة في تغيير نهجها هذا، والتي ربّما ستكلّفها الكثير، فلا الولايات المتحدة الأميركيّة، ولا الاتحاد الروسيّ سيسمحان بنشوء قوّة ثالثة تنافسهما في حكم المنطقة، وبالتالي فمنتهى طموحها يجب أنْ يكون كـ وكيل لإحدى القوّتين، شأنها شأن إيران والمملكة العربية السعوديّة، وأيّ تفكير خارج هذا السِّياق سَيُقابَل بِرَدٍّ قاسٍ، في ظلّ ضعف الجبهة الداخليّة التركيّة الناتجة عن تنامي المعارضين لسياسات الحزب الحاكم.

وهو ما تجلّى في الانتخابات البلديّة الأخيرة في العام الماضي، وبروز قوى سياسيّة جديدة من منشقّين بارزين عن حزب “العدالة والتنمية” وتقاربهم مع الأحزاب الكُرديّة، إضافة إلى حملات اعتقال غير مسبوقة تطال الأكاديميين والحقوقيين والنشطاء، ما يفتح باب الاحتمالات القاسية التي من الممكن تواجه الرئيس التركيّ وحِزْبِه.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.