الظّلُّ لم يَعُد يُمثّل عقدةً فيزيائية لتفكيك خصائصه المادية، ولم يَعُد محلَّ خوفٍ لـ  “دانتي” في الكوميديا الإلهية عندما لم يجد ظلّ مرشده “فرجيل” في غابة الجحيم؛ بل تحوّل الظّلُّ إلى مساحةِ جدلٍ ونقاش بين الديانات، فقد كان مُقترناً بالغموض والموت والحياة، كما شكّل مادةً لكثيرٍ من الأدباء، وخيالٍ واسع للفنانين التشكيليين، أما في المسرح والسينما، فيُعدّ الظلّ ركناً أساسياً لأيِّ عملٍ إبداعي، وصار الظلُّ متلاصقاً لحياة البشر، ليس على أساس انعكاس الضوء على الجسد؛ بل أن عدداً منهم لا يستطيع أن يعيش إلا في الظل، ظل إيديولوجيا، شخص آخر، ظل زعيم، ظل حائط، ظل شجرة، وعلى إطار الظلّ الذي يؤمن به يحدد حركته وحياته.

في العراق، كان الظلّ حاضراً كمُعادلٍ لبعضِ السلوكيات السياسية والحياتية، حتى صار شعار (خليك بالظلّ) مساحة نجاةٍ لتطوراتٍ دامية، فكانت شمسُ التغيير في 2003 وامتداداتها، ساطعةً كي تُنهي حالة الظلام التي سادت البلد لعقودٍ طويلة وتُعطي فسحة أمل لأرض وشعب أن يعيش في ضياء الحرية والعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص وسيادة القانون على الجميع، لكن هذه الشمس اصطدمت بجسد الأحزاب السياسية التي كانت تؤمن بأن كل ما يمر من أشعة الشمس، يجب أن يكون من خلال جسدها الذي سيطر على (العراق الدولة)، فبدأ الظلام يتشكّل من جديد على هيئة استحواذٍ لموارد الدولة، وفسادٍ عميق يستلب أحلام الفقراء، ومحاصصةً حزبية_ زعائمية_ عائلية لإقصاء كل الكفاءات والنُخب الوطنية التي راكمت خبرتها من الدولة، وسلاحٍ خارج إطار الدولة، يتحكّم بمعايير ومستويات الأوضاع السياسية، الخارجية، الأمنية والاقتصادية.

لم تُدرِك هذه الأجساد السياسية، أن الشعب لا يمكن أن يعود لمرحلة الظلم والظلام من جديد، لذا جاءت  لحظة تشرين / أكتوبر 2019،  لتضع حدّاً فاصلاً بين الضوء والظلمة وتجبر هذه القوى على التراجع خطوةً للوراء، لتعود ضياءات الديمقراطية المفقودة إلى الواجهة من جديد، كأساسٍ للنظام الذي يقود الدولة، فضلاً عن جيلٍ بعقولٍ ووجوهٍ سياسية جديدة تعمل على إصلاح أعطال النظام والعملية السياسية .

هذه القوى التي رهنت نفسها للظلام، لا ترغب بمغادرة المشهد السياسي وتحاول بكل عناصر قوتها، التّمسك والعودة لاحتكار القرار وهي تتخذ عدة استراتيجياتٍ لهذا الهدف، وقد يكون أهمها تأسيس كيانات وأحزابٍ رديفةٍ لها، تحت عناوين جديدة وقادة ومنتمين يبدون، ظاهراً، بعيدي الصلة بهذه الطبقة السياسية إلا أن حقيقتهم هي أنهم كانوا جُزءاً من مشروع الانتظار لهذه اللحظات الحرجة.

أحزابُ وكياناتُ الظلّ، قد يكون الوصف الدقيق لتجمّعات الإنقاذ السياسية التي تدعمها الأحزاب التقليدية، فبدلاً من أن تُرسّخ القوى التقليدية المفهوم الديمقراطي بحكومة الظل التي تراقب الأداء الحكومي، إلا أنها اندفعت نحو تأسيس وتأصيل الدولة العميقة، وبدلاً من أن تحوّل دكاكين أحزابها إلى منظوماتٍ حزبية تحمل مشروع دولة وترسيخ ديمقراطية، إلا أنها اعتمدت مفهوم الكيانات الرديفة، فقد باشرت الأخيرة منذ ما يقارب 6 أشهر أو أقل، على تشكيلِ تجمّعات الإنقاذ هذه وتواصلت مع عددٍ من الشخصيات لهذا الغرض.

كما تواصل عددٌ من الشخصيات مع هذه القوى التقليدية لذات الغرض، بهدف خلق حالة من التشويش على الناخب العراقي لغرض إرغامه على العزوف عن المشاركة أو عدم القدرة على الاختيار أولاً، وحصد الأصوات لتجمّعات الإنقاذ والالتحام بها بعد إعلان نتائج الانتخابات  والإمساك بالقرار للعودة إلى دوامة السلطة الظالمة ثانياً، ومحاولة لعزل القوى الحقيقة الصاعدة التي تمثّل مشروعاً سياسياً من صلب حركة تشرين أو قريبٍ من أهدافها ثالثاً، وإحباط أيّ محاولةٍ لإصلاح النظام السياسي وفق قواعد جديدة رابعاً .

إن مراجعة سريعة لعدد الكيانات المُسجّلة في دائرة الأحزاب التابعة للمفوضية العليا للانتخابات في العراق والتدقيق حول أسماء الهيئات المؤسسة لما يقارب 70 % منها، سيكتشف حقيقة هذه التوجّهات، فقد سبق وأن استخدمتها بمستوى أقل في انتخابات 2014 و 2018، لكن يبدو أن الحاجة لأحزاب الظلّ هذه في الانتخابات القادمة (مبكرة أو غير مبكرة) أكثر ضغطاً على الزعماء التقليديين، لإدراكهم بأن صندوق الاقتراع القادم، إذا توفّرت الظروف الملائمة المحيطة به، سيُحدد مصيرهم ليس على أساس التواجد ومساحة النفوذ، بل قد يدفعهم هذا الصندوق إلى المساءلة.

الاختبار الأصعب، سيقع على عاتق الشعب والناخب في مسألة الفرز بين المشاريع السياسية الجديدة المستقلة وبين كيانات الظلّ التي تمثّل رغبات زعماء الخطأ والخطيئة والجمود والعتمة والعزلة، وستكون تجمّعات الإنقاذ وجوهٌ لأصحاب الظلّ الطويل، فكيف لنا أن نقتنع أنها كياناتٌ منفصلة عنهم، مثلما أرادت الكاتبة الأميركية “جين وبستر”  في روايتها المشهورة (صاحب الظل الطويل) أن نخاطب ونتعاطى مع هذه الظلال باعتبارها مجردة، وهي في حقيقتها تعكس ظل الفشل والفساد المتزامن.

ظلُّ الوجوه، قد ينجح إلى حدٍّ ما، لكن لن يكون بديلاً عن شمس التغيير التي ستبدد ظلام سنوات سطوة الأحزاب.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.