أيُّ سلامٍ جَلَبَتهُ “نبع السّلام” التركيّة لـ شمال شرقي سوريا؟

أيُّ سلامٍ جَلَبَتهُ “نبع السّلام” التركيّة لـ شمال شرقي سوريا؟

سنةٌ كاملة، إلا قليلاً، مرّت على العمليّة العسكريّة التركيّة التي عُرِفت بـ “نبع السلام” بمشاركة فصائل مسلّحة سوريّة موالية لأنقرة على المنطقة الواقعة بين مدينتي رأس العين وتل أبيض، وانتهت بعد توصّل أنقرة إلى اتفاق مع واشنطن يقضي بانسحاب قوات سوريا الديمقراطيّة من المنطقة، وأعقبه اتّفاقٌ مماثل مع روسيا في سوتشي.

كانت الوعود التركيّة قُبيل هجومها، هي نشر الأمن والسلام بين أبناء المنطقة، وإعادة ما أسمته “السكان الأصليين” إلى منازلهم، لكن ماذا تحققت من تلك الوعود؟

باتت المخيّمات هي المأوى الأوحد لآلاف النازحين من المدينتين، والبعض منهم سكنوا بيوتات القامشلي والحسكة وغيرها من المدن التي بقيت تحت سلطة الإدارة الذاتيّة، وأُسكِنت عائلات مقاتلي الفصائل الموالية لتركيا في منازل السكان الأصليين، وضيّقت على حيوات الباقين من الأهالي بُغية حَمْلهم على النزوح، وأتبعت المدينتين بولاية شانلي أورفا التركية من الناحية الخدمية.

بل استغلّت أنقرة سيطرتها على رأس العين لابتزاز الإدارة الذاتية، حين قطعت الماء عن حوالي نصف مليون شخص في الحسكة، حيث تتحكم بمحطة علوك للمياه التي تضخّ المياه لمدينة الحسكة، وتذرّعت بعدم وصول كمية الكهرباء المتّفق عليها من مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطيّة.

تقرير اللجنة الأممية التي أنشأها مجلس حقوق الإنسان، كان التعبير الأدقّ عن الحال الذي أوصلته إليه العمليّة العسكريّة التركيّة، فهي لم تَعُد تتحدث عن أخطاء فردية يرتكبها مقاتلو الفصائل المسيطرة على المنطقة، بل استخدمت مصطلحات أكثر شدّة، من قبيل «الاستيلاء الممنهج واسع النطاق على ممتلكات الكُرد بشكلٍ خاصّ» وأن الانتهاكات تمّت «بطريقة منظمّة لدفعهم بالنهاية لترك مناطقهم وسحق الوجود الكُردي فيها».

بالإضافة لوجود «زيادة في أنماط الانتهاكات المستهدفة، مثل الاغتيالات والعنف الجنسي ضد النساء والفتيات، ونهب الممتلكات الخاصة أو الاستيلاء عليها، مع وجود طابع طائفي».

القاسم المشترك بين المدينتين اللتين سيطرت عليهما تركيا، هو أنهما كانتا في وقت ما تحت سيطرة جبهة النصرة، فرأس العين وقعت تحت سيطرة “الجبهة” عام 2012، إلى أن انتزعت وحدات حماية الشعب (الكُردية) المدينة منتصف عام 2013.

أما تل أبيض، فقد سيطرت “النصرة” عليها منتصف عام 2012، ومن ثم تنظيم “الدولة الإسلامية” في عام 2014. حتى انتزعت قوات سوريا الديمقراطيّة السيطرة عليها منتصف عام 2015.

ضمّت تركيا منطقة “نبع السلام” إلى سلسلة مناطق سيطرتها في سوريا، والتي باتت تضم الجزء الأكبر من شريطها الحدودي المشترك مع سوريا، حيث محافظة إدلب ومدن عفرين، الباب، جرابلس وإعزاز، وتبدو شهيتها مفتوحة لقضم مناطق أخرى مثل تل رفعت وكوباني/ عين العرب وعين عيسى ومنبج.

وتسعى أنقرة بكل ما أوتيت من عزم، أن تُدير الزوايا مع كلّ من الولايات المتحدة وروسيا كي تسمحان لها بدخول هذه المناطق لتشكل أوراق تفاوض أقوى ستستخدمها حين الجلوس على طاولات المفاوضات، وضمها إلى ملفات ليبيا وغاز المتوسط ومؤخراً منطقة “ناغورني كاراباخ” في أذربيجان في سعيها للعب دور أكبر في النزاعات التي تستطيع التأثير فيها.

يبدو أنّ جزءاً كبيراً من السعي التُركيّ لإشعال جبهات إقليمية ودولية مَرَدُّه الهروب إلى الأمام، وإشغال الداخل التركي بهذه الملفات في ظل سلسلة انتكاسات داخلية يمنى بها حزب العدالة والتنمية الحاكم، فالليرة التركية تشهد تراجعاً كبيراً، واعتقال النواب والأكاديميين بات زاداً يومياً للأتراك، خصوصاً النواب ورؤساء البلديات الكُرد من حزب الشعوب الديمقراطية (الكُردي).

المعارضة السورية المسلحة بدورها أصبحت في معضلة يرثى لها، فبات مقاتلوها جنوداً دائمين للحروب التركية من ليبيا إلى أذربيجان مقابل المال، وفقط المال، بعد أن كانت الإيديولوجيا المذهبية جزءاً من آلة التجنيد التركية للسوريين ذوي الهوى التركيّ، وباتت عديد فصائلها متهمة بانتهاكات موصوفة، وبالتالي فالخيار التركي بالتخلص منهم في حروبها الإقليمية بات أمراً واقعاً، خاصة وأن أنقرة ملزمة، وفق اتفاقاتها مع موسكو، أن تعزل المتطرفين عن مناطق سيطرة مواليها في سوريا، أو أن تصبح تلك المناطق، هدفاً مشروعاً للطيران الروسي والجيش السوري والفصائل الموالية له.

في الجانب السياسيّ، فإن المبعوث الأميركيّ الخاصّ إلى سوريا “جيمس جيفري” كان قد زار المنطقة عقب اتفاق أحزاب “الوحدة الوطنيّة الكُرديّة” بزعامة حزب الاتحاد الديمقراطيّ وتكتل أحزاب “المجلس الوطني الكُردي” بزعامة الحزب الديمقراطيّ الكُردستانيّ -سوريا على إنشاء مرجعية سياسيّة كُرديّة عُليا، وفتح الطريق لانضمام “المجلس” للإدارة الذاتية.

واجتمع “جيفري” مع وفد مشترك من الجانبين ونقل لهما تأكيداً بمنع تركيا من شنّ أي هجوم مماثل لما حدث العام الماضي، وكذلك شدد على دعم واشنطن للاتفاق في طريق إنشاء أكبر طيف معارض يعمل تحت المظلّة الأميركيّة، يكون بديلاً عن سطوة الائتلاف واحتكاره تمثيل المعارضة السوريّة، وبالتالي سحب اليدّ المُطْلقة التركيّة عن ملف التمثيل السياسيّ للمعارضة، والتي تشاركت به مع حليفها في محور “أستنة” روسيّا.

حققت تركيّا هدفها الرئيسيّ بالسيطرة على منطقة استراتيجيّة تفصل بين مناطق الإدارة الذاتيّة، حيث باتت أوصالها مقطّعة بشكل شبه تامّ، وعليه فلا وجودَ فعلياً للمشروع الذي بدأ عام 2014 وبات واقع الحال يفرض على “قسد” التفكير بالحفاظ على ما تبقى من مناطق سيطرته، والتي تتوزع، هي الأخرى، بين النفوذين الأميركيّ والروسيّ، وحمايتها من الأطماع التركيّة، ومن التحيّن الحكوميّ السوريّ لأي فرصة سانحة لاستعادة السيطرة على الجزء الأغنى من البلاد، في ظل الأوضاع الاقتصاديّة الخانقة التي يعيشها.

وتبقى فرصة الإدارة الذاتيّة قائمةً في تكريس حالة الأمر الواقع القائمة، والتي من الممكن أن تتعزز بتوافقات داخليّة، ورضىً أميركي قد يتأتّى في حالة حدوث تغيير في رأس هرم البيت الأبيض.

أما رأس العين وتل أبيض، فيبدو أنهما باقيتان تحت النفوذ التركيّ إلى حين، ومناطق “نبع السلام” لن تنعم بالسلام طالما بقي الحال كذلك.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.