تركيا تُغادِر حدود “سوتشي”.. انسحابٌ مُفتَعَل أم هَزيمةٌ مأجُورة؟       

تركيا تُغادِر حدود “سوتشي”.. انسحابٌ مُفتَعَل أم هَزيمةٌ مأجُورة؟       

كان حدثاً بارزاً، الثلاثاء الماضي، أن تستكمل تركيا سحب نقطتها العسكرية من “مورك” إلى بلدة “قوقفين” في جبل الزاوية، في خطوةٍ أولى باتجاه سحب بقية النقاط من (شيرمغار، الصرمان، الطوفان، ترنبة، مرديخ ومعرحطاط وشرق سراقب)، وكلها تقع في شمال وشمال غربي حماه وجنوب إدلب، في المناطق التي سيطر عليها النظام مطلع العام الجاري، في انتهاكٍ واضح لحدود اتفاق (سوتشي) في سبتمبر 2018، بين أنقرة وموسكو.

تبدو الخطوة التركية الأخيرة، تراجعاً جديداً لأنقرة عن تصريحاتها بالتمسك بحدود اتفاق سوتشي، وأن يسيطر الأتراك على المنطقة برفقة الشرطة العسكرية الروسية؛ فقد هدد أردوغان والمسؤولون الأتراك قوات النظام بالانسحاب إلى ما وراء النقاط التركية، بعد أن قتل الأخير 30 جندياً تركياً في جبل الزاوية شباط الماضي، ما دفع أنقرة لشنّ عملية عسكرية في 27 شباط/ فبراير من العام الجاري، ثم توقّفت بعد الاتفاق مع الروس على وقف إطلاق النار، مع بقاء نقاط المراقبة التركية في مناطق سيطرة النظام.

رغم تكثيف الاجتماعات الروسية التركية (مفاوضات الشهر الماضي في أنقرة، وزيارة نائب وزير الخارجية التركية لموسكو الخميس الماضي)، إلا أن الخطوة التركية لا يبدو أنها جاءت نتيجة التوصّل إلى اتفاقٍ لترتيب الوضع في إدلب؛ فمُجريات الأحداث تقول إن تركيا كانت تهمل نقاطها المحاصَرة تلك، مقابل تعزيز تواجدها العسكري على خطوط التماس في جبل الزاوية، وبالتالي باتت نقاط المراقبة المحاصَرة عبئاً عسكرياً على أنقرة، وقد أبقتها لاستخدامها كورقةِ تفاوض، لكنها سقطت مع مرور الوقت وتعنّت الروس في رفض انسحاب قوات النظام، باعتباره سلطة شرعية يحق لها بسط سيطرتها على كامل الأراضي السورية، وأضاف تصعيد النظام إعلامياً ضد النقاط التركية وإخراجه مسيرة تندد بالتواجد التركي في مناطق سيطرته، المزيد من الضغوط على الأتراك، ما دفعهم للانسحاب، وتعزيز تمركزاتها في جبل الزاوية، تحسّباً لتصعيدٍ سوري- روسي متوقّع، للسيطرة على جنوب الطريق الدولي حلب- اللاذقية M4.

بالفعل صعّدت قوات النظام، بدعمٍ روسي، من قصفها لجبل الزاوية؛ وهذا، من جهةٍ أولى، يأتي ضمن الرغبة الروسية للسيطرة على كامل جنوب الطريق الدولي، وأن تكون الدوريات الروسية، التي من المفترض تسييرها جنوب الطريق الدولي محميةً بقوات تابعة للروس، وليست تحت رحمة الأتراك، خاصة مع تأخّر أنقرة في تطبيق بنود اتفاق سوتشي 2018، ثم بنود اتفاق موسكو لوقف إطلاق النار في آذار الماضي، بما يخص فتح الطريق الدولي وتسيير دوريات متزامنة، روسية وتركية، على جانبي الطريق، وحل معضلة الجهاديين.

ومن جهةٍ ثانية، يأتي التصعيد الروسي في إدلب، ضمن خطوةٍ روسيّة لعرقلة الهجوم التركي شرق الفرات، في عين عيسى شمال الرقة، حيث تسعى أنقرة للضغط على الإدارة الذاتية للحصول على تنازلاتٍ ضمن المفاوضات الجارية بين الطرفين برعايةٍ أميركية؛ الأمر الذي لا ترغب به روسيا، حيث تسعى لامتلاك الورقة الكردية، وتريد للحليف التركي أن يبقى دوره في سوريا ضمن دائرتها.

تخشى تركيا من استمرار التصعيد السوري- الروسي في جبل الزاوية، والسيطرة على جنوب الطريق الدولي M4، فهذا يعني حصر النفوذ التركي في شريط ضيق شمال الطريق الدولي، ما سيشكل تهديداً جديداً للنفوذ التركي في الشمال، وإرجاعها إلى حدود اتفاق أضنة لعام 1998، أو بنسخةٍ مُعدّلة عنه.

كما أن التصعيد الجديد، قد يسبب أزمة نزوح جديدة لا تقوى أنقرة على احتمالها، مع الضغوط الداخلية التي تعانيها، إضافة إلى الضغوط الأوروبية في معركة البحث عن الغاز شرق المتوسط، وتشديد اليونان الرقابة على حدودها، وتعقيداتٍ تركيّة بخصوص ملف اللاجئين.

تكتظّ منطقة خفض التصعيد الرابعة في إدلب بالسكان، حيث تؤوي قرابة 1.7 مليون نازح، إضافةً لسكانها الأصليين، وبعضهم كان يعوّل على العودة إلى مناطقه شمال حماه وجنوب إدلب، والتي سيطر عليها النظام بداية العام الجاري؛ لكنّ الخطوة التركية الأخيرة في سحب نقاط مراقبتها المحاصّرة في تلك المناطق، بدّدت كل الآمال بالعودة، وخلقت المزيد من حالة الامتعاض من الدور التركي في سوريا عموماً، وامتعاضاً من ارتهان الفصائل الإسلامية لإرادة تركيا، ومن صمت المعارضة السورية المتواجدة في تركيا عن الخطوة التركية الأخيرة، وتأييدهم وتبريرهم عموماً للسياسيات التركية في سوريا.

هذه السياسات قائمة على تحقيق المصالح التركية أولاً وأخيراً، وكانت وبالاً على السوريين في تسليم المناطق السورية تباعاً للنظام، بدءاً بحلب الشرقية، إلى الغوطة الغربية والشرقية وريف حمص الشمالي ومناطق واسعة في ريف حماه الشمالي وجنوب إدلب وشرق حلب، مقابل مناطق تعتبرها أنقرة استراتيجيةً في حماية أمنها القومي ضدّ الخطر الكردي، حتّى لو تطلّب ذلك تهجير أهلها وإجراء تغيير ديمغرافي لصالح سكان تضمن ولاءهم، الأمر الذي غيّر كل سياساتها في سوريا منذ 2015.

ستُكمِل تركيا سحب بقية نقاط مراقبتها من مناطق سيطرة النظام، وهي تتطلّع إلى السيطرة على تل رفعت ثم منبج باتفاقٍ مع الروس، وتتريكهما كما تفعل في جرابلس والباب وعفرين، كما تتطلّع إلى ترسيخ تواجدها شرق الفرات عبر قواتٍ سورية تواليها، في حين أنها ضمنت السيطرة على الكتلة الأكبر من المعارضة السورية والمكرسة في الائتلاف والمجلس الوطني، وعلى الفصائل الإسلامية العاملة في سوريا؛ وذلك ضمن استراتيجيتها للاستثمار في التيارات الإسلامية في المنطقة العربية عموماً، وهذا ما حوّل تلك التيارات والفصائل، ومنذ سنوات خلت، إلى مرتزقة لها، في سوريا أولاً، قبل أن تتوسّع في استخدامهم في حروبها خارج الأراضي السورية، في ليبيا وأذربيجان.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.