«شعرت فجأةً بيدٍ تسللت بين شعري وعلى رقبتي من الخلف، التفتُّ لأرى ما الأمر فثبَّتني من كتفَيَّ وقال لي: أشعر بشحنة من الكهرباء تتسلل في جسدي، أبعدتُ يديه عني ولم أستطع قول أي شيء فتابعت عملي..»، بهذه الكلمات تصف “منى” واقعة التحرش الأولى التي تعرضت لها في مكان عملها، وتضيف :«لا يمكنني أن أنسى تلك الأيام إنها محفورة في داخلي كجزء مني، كنت أتممت التاسعة عشرة وأحتاج عملاً لأكمل دراستي الجامعية، كان أول مكان أعمل فيه، عندما بدأت كنَا خمس فتيات يعملن في نفس المكان، بعد مضيِّ أسبوع على بدئي العمل، طرد جميع الفتيات وتركني وحيدة في ذاك المكان، والسبب أني كنت أعمل بشكل أسرع منهن لأنني لا أريد الاختلاط بأحد، إضافة لكوني فريسة أسهل فأنا صغيرة ولا أعرف جيداً كيف أدافع عن نفسي، ويبدو أن صاحب العمل التقط نقطة ضعفي تلك».

تحكي “منى” قصتها مع التحرش في أماكن العمل الخاصة والتي رافقتها لوقت طويل في حياتها، حتى قررت أخيراً الامتناع عن العمل في مكان يديره رجل، نظراً لتكرار التجارب في حياتها مولِّدةً لديها شعوراً بالخوف يصعب التخلص منه.

تواصل شارحة: «كنت أعيش حالة ضياع فلا أستطيع ترك العمل لأنني بحاجة للمال، وبذات الوقت أشعر أن هناك من يعتدي على مساحتي وأماني، فلجأت لأن أتشبه بالرجال! ألبس لبسهم وأضفر شعري ثم أذهب إلى عملي، لكن دون فائدة إذ لم تتوقف محاولاته، ومساء كل يوم  في لحظة خروجي من باب المكتب كانت تنهمر دموعي دون إرادتي، وأبقى على هذه الحال حتى أصل بيتي فأتمالك نفسي وكأن شيئاً لم يحدث، الأصعب من ذلك كله أني لم أستطع إخبار أحدٍ بما يحدث لي».

يعد التحرش الجنسي من الظواهر الاجتماعية المنتشرة في سوريا، وبدأ الحديث يتوسع عن هذه الظاهرة مؤخراً، ولجأت العديد من السيدات للكشف عن تعرضهنَّ للتحرش، مع ذلك تبقى نسبة النساء اللواتي يتعرضن للتحرش في أماكن العمل كبيرة مقارنة بالتي نعرفها، فمعظم النساء تخاف الكشف عما تتعرض له، وذلك لأسباب تعود إلى تربيتها وردود الفعل التي تتوقعها من المحيطين بها.

يعد انتشار التحرش في أماكن العمل من الأسباب التي تجعل النساء غير قادرات على الانخراط التام في سوق العمل، و في بلد مثل سوريا يحتاج الجميع فيه للعمل بسبب الأزمات الاقتصادية، يشكل الوضع القائم مشكلة مضاعفة لدى المرأة، فهي إما أن تحرم من المال الذي تحتاجه لتعيش، أو أنها تحصل عليه مقابل أن تخضع للإهانة والإذلال واستباحة جسدها من قِبل مدير العمل أو من أحد الزملاء.

“منى” هي واحدة من كثيرات يتعرضن بشكل يومي لاعتداء جسدي أو لفظي، وإكراه على تلبية رغبات رجل يتحكم بلقمة عيشهن، بعض الرجال إن لم توافق الفتاة وتتساهل مع تحرشه يطردها من العمل أو يبدأ بابتزازها، وهنا يأتي السؤال، هل ينبغي على النساء أن يصمتن ويحققن رغبات الرجال من أجل الحفاظ على عمل هو أساس حياتهن والملجأ الوحيد لهن؟ وإن خرجن عن صمتهن وتخلين عن العمل من يعوض لهنَّ خسارتهنَّ المادية ويؤمّن عيشهن؟

كان عليَّ أن أجتاز درجاً ضيقاً ومعتماً لأصل القبو الذي تقطنه “نور”، عندما دخلت لم أستطع الجلوس فالقبو غريبٌ وموحشٌ، جدرانه مطليةٌ باللّون الأسود، ورائحة الرطوبة خانقة، جلسنا وبدأت “نور” من تلقاء نفسها تتحدث كيف وصلت إلى هنا.

«وجدت عملاً في تحضير القهوة والشاي في مكان لتدريس أطفال المرحلة الأساسية، شعرت أن الحياة ابتسمت لي وأني سأبدأ صنع حياتي بنفسي، اقترحت على صاحب العمل افتتاح حضانة في أحد أجزاء المكان وأن أشرف على الأطفال الصغار، فوافق فوراً وبدأنا ترتيب المكان، في مساء أحد الأيام أثناء عملي جاء حاملاً مشروباً كحولياً، وخاطبني تعالي وارتاحي قليلاً، وهنا حدث ما كنت أخشاه، فأنا امرأة متزوجة وزوجي غير موجود، وحيدة وبحاجة عمل لتعيش مع ابنتها، هدف سهل لرجل يعيش بضجر، كان عليَّ أن أكون ذكيّةً وقوية لأبعد يديه عن جسدي دون أن أخسر عملي، وكان ما يجبرني على ذلك أيضاً أنني أنام في نفس المكان أنا وابنتي، فليس بمقدوري أن أستأجر منزلاً في هذه الظروف، بعد ذلك أصبحت أتعرض للمس وللألفاظ الجنسية التي يلقيها على مسامعي بشكل يومي، بعد وقت قصير قادني الفضول لمعرفة السبب الذي يجعل جميع العاملات في المكان نساء، اكتشفت أن محاولاته تلك كانت معهنّ جميعاً وكثيرات ذهبن، واللواتي بقين كنَّ يحتمين ببعضهن، ولا يسمحن له أن يختلي بواحدة منهن».

تنقسم أماكن العمل الخاصة في سوريا وخاصةً بعد الحرب إلى قسمين رئيسين، مشاريعُ صغيرة تنتشر بكثرة ويتصف ما يحدث بداخلها بالغموض، وشركات كبيرة والتي يمكن أن يعرف أكثر ما يحدث داخلها بسبب شهرتها أو كثرة العاملين فيها ما يساعد في تسرب المعلومات، تتوجه النساء اللواتي لم يحصلن على تعليم كافٍ إلى المشاريع الصغيرة عادة، فيما تذهب الفتيات الحاصلات على شهادات أعلى إلى الشركات الكبرى بقصد العمل بشهاداتهن، يتخذ التحرش في كل منهما أسلوباً مختلفاً، فشروط العمل والمكان تتحكم بالإمكانيات المتاحة للتحرش، وهنا يتوقف الأمر على ذكاء المتحرش وخبرته في هذا المجال وإيجاد حلولٍ لتلبية رغباته، مؤخراً أصبح ما يحدث معروفاً، فلكي تعمل فتاة في شركة كبرى عليها أن تحقق شروطاً “جسدية” محددة، ومظهراً يجذب الرجال ويجعلهم مبتسمين وراضين، يشكل هذا الطرح تهميشاً لإنسانية المرأة وعقلها وعلمها، ويسعى إلى تشييئها فهي من ضمن ديكور الشركة ومظهرها الخارجي الذي ينم عن مستوى هذه الشركة وطبيعة عملها، إذ يمكن أن يستخدم مديرو الشركات الكبرى الفتاة التي تعمل لديهم كطعمٍ للرجال الآخرين والشركات الأخرى للتعاقد معهم، وهذا نوع آخر من الاعتداء على شخص المرأة وحريتها، بالإضافة للتحرش الجنسي والذي بطبيعة الحال سيترافق مع ذلك.

من الصعب لفتاةٍ أن تعمل في سوريا دون أن تتعرض لشكل من أشكال التحرش، أصبح هذا الأمر محتوماً، إحدى الفتيات قالت لي إنها وفي يوم المقابلة الأولى من أجل العمل عرض عليها المدير أن تقيم علاقة معه و بالمقابل يوظفها فوراً، ويبدو أن هذا الشكل من العروض موجود بكثرة لدى أصحاب العمل، في الوقت الذي تختلف فيه التأثيرات النفسية للتحرش بين فتاة وأخرى وكيفية تعاملهن معه، فالبعض منهن يتدربن على مواجهته والدفاع عن أنفسهن فيما تفرض تربية أخريات عليهن أن يكن ضعيفات وخاضعات، وغير قادرات على رده عن أنفسهن وأجسادهن.

تكمل “منى” حديثها عن استمرار التحرش في حياتها وتحولها إلى فتاة تسأل نفسها طوال الوقت «ما الذي يوحي بشكلي وتصرفاتي بأنني هدف للرجال؟ ما الذي يدفعهم لفعل ذلك معي؟ في آخر مكان عملتُ فيه كنت بالبداية أكثر اطمئناناً فصاحب العمل شاب وكل من عملت لديهم من قبل كانوا كباراً في السن، ارتحت لفكرةِ أنه لن يقدم على فعل شيء لي، بعد يومين، طلب مني أن أجلب له أوراقاً ففعلت، وعندما دخلت بدأ يدعوني للاقتراب أكثر ثم أكثر ومسك يدي بقوة وسحبني إلى حضنه، كنت سئمت كل شيء فضربته على وجهه وخرجت ولم أعمل بعدها في مكان يديره رجل على الإطلاق، أصبحتُ فتاةً خائفةً ومتوترةً بوجود الرجال طوال الوقت، أشعر بالحقد على حياتي وظروفي التي عرضتني لكل ذلك».

التحرش شكل من أشكال التمييز التي ترسِّخ شعوراً شديداً بالدونية لدى المرأة وتجعلها غير واثقة بنفسها وبالآخرين، فيما هي مجبرة في كثير من الأحيان على أن تبقى حبيسة المنزل كي لا تتعرض له، ما من خطوات واضحة في سوريا لتجنب تعرض النساء لذلك، وما من قوانين تحاسب المتحرش على فعلته.

إذا ما حاولنا النظر في الأسباب التي تدفع الرجال للتحرش بالنساء في أماكن العمل لا يمكننا الوصول إلى شيء، فمعظمهم متزوجون ولديهم حياتهم الجنسية، لا يمكن لكل الرجال أن يكون لديهم هذا الجوع الجنسي، وأن يتصفوا جميعاً بأنهم متحرشون، يبدو أن هذا أصبح أشبه بالتقليد، وكأن لسان حالهم يقول : «لدي فتاة تعمل بقربي طوال الوقت فلماذا لا أتمتع بها»، خاصة أن لديهم من الأفكار والمعتقدات ما يكفي لتبرير أفعالهم هذه، وليس هناك من يحاسبهم أو يردعهم.

«استمر عملي في ذلك المكان لمدة ثلاثة أشهر وأنا أحاول حماية ابنتي وإخفاء ما يحدث لي عنها، استطعت أن أجمع القليل من المال وأخرج لأجد هذا القبو العفن وأسكن فيه لأحافظ على حياتي وجسدي»، تتابع “نور” حياتها في مكان مظلم خالٍ من الخدمات، بعيداً عن المتحرشين وأيديهم، لتعيش مع ابنتها الوحيدة وتساعدها في تعليمها وحياتها بعدما خسرت كل شيء.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.