لم تعد العمليات الإرهابية نخبوية ومكلفة، فلا يحتاج من يريد القتل اليوم إلى اختطاف طائرة كلّفت ملايين الدولارات، كما لا يحتاج أن يصدمها في برج عال يرمز لمال أو سلطة، بعضهم لم يعد لديه بنك أهداف مسبق لعملياته إلا رقاب الأبرياء، إذ يكفي أن يأخذ أي مهووس سكيناً ويتوجه إلى الشارع، ليبدأ القتل رافعاً شعاراته الدينية أو السياسية.

اليوم يمكن لأي شخص خرج من مصحّة لمعالجة متعاطي المخدرات والكحول أو حتى لأي محكوم بجرائم جنائية شائنة، أن يستغل لحظة الهداية ليحزّ أعناق ضحاياه دون تمييز… وهكذا ينحدر القتلة بهذا العالم إلى هاوية الصراع والدم.

كابول/ عاصمة أفغانستان

يوم الاثنين، الثاني من تشرين الثاني/ نوفمبر، مجموعة من الطلاب الجامعيين يجتمعون في جامعة #كابول، استعداداً لتخريج دفعتهم من القضاة والمحققين، ولدت غالبيتهم في سنوات التسعينات عندما كانت حركة طالبان وحليفتها القاعدة تسيطران على البلاد، يحاول هؤلاء الشباب اليوم أن يرسموا مستقبلاً آخر لأنفسهم ولبلادهم ربما، إذ ليس من السهل أن يصل المرء إلى الجامعة في بلاد ما زالت تعاني الفقر وويلات التشدد والحروب، أجواء الفرح بالنجاح ترسم ابتسامات الفخر على وجوه الشباب والشابات… لحظة ويدوّي انفجار، صوت الصراخ ورائحة البارود والدم، بعدها إطلاق نار…، وضاعت أحلام الشباب وعائلاتهم.

ذهب حلم التخرج والمستقبل والعمل بغمضة عين أُطبقَت إلى الأبد، وتناقلت محطات التلفزة نبأ مقتل 22 طالباً وطالبة بعد عملية انتحارية نفذها عنصران من تنظيم داعش، هكذا صارت 22 قصة وعائلة مجرد رقم تضرب فيه وكالات الأنباء والشاشات المتابعين، فيما تضيفه مراكز الإحصاء لأعداد ضحايا الإرهاب والقتل المجاني.

وراء نشرات الأخبار ومشهد الدم تقبع أمهات كن ينتظرن تخرّج الأبناء، بينما تركهن القاتل غارقات بالدمع والألم.

في هذا الوقت كانت داعش بوكالة أنبائها تتبنى العملية، وحركة طالبان تنفي علاقتها بها، بينما يكسب الجهل والقتل جولة جديدة على حساب الأمل بمستقبل أفضل.

فيينا/ عاصمة النمسا

ربما لا يعرف كثر من سكان #فيينا غير العرب أغنية أسمهان الشهيرة “ليالي الأنس في فيينا”، التي تتغنّى بسحر مدينتهم، إلا أنّهم بسكناهم المدينة يعرفون أنها واحدة من أكثر مدن العالم أمناً وجمالاً.

ليلة الاثنين الثاني من تشرين الثاني/ نوفمبر لم تمرّ كغيرها من الليالي على سكان المدينة الواقعة في وسط القارة الأوروبية. الناس يودّعون الشوارع قبل بدء إجراءات الحجر الصحي، ذاك أن #كورونا يضرب بموجته الثانية الدول الأوروبية، هكذا يحثّ بعضهم خطواته عائداً إلى منزله بعد يوم عمل متعب، ويشتري آخرون أغراضاً إضافية خوفاً من نقص السلع في أيام الحجر، وفي غمرة الأحداث اليومية يستعدّ قاتلٌ للقتل.

كان القاتل خضع في نيسان 2019 لمحاكمة قضت بإبقائه 22 شهراً في إصلاحية مخصصة للمتطرفين، إلا أنه نجح في تضليل المسؤولين عنه، وأقنعهم أنه تراجع عن تطرفه وعن فكرة الذهاب إلى #سوريا للانضمام إلى داعش، فأفرج عنه في الشهر الأخير من العام الماضي، ليرتكب جريمته بعدها بأشهر.

هكذا خرج الفتى العشريني المنحدر من أصول ألبانية مسلحاً ببندقية ومسدس لينفذ عمليته وسط #فيينا، فقتل 4 ضحايا وجرح 15 قبل أن ترديه الشرطة قتيلاً.

لم تضح نتيجة التحقيقات كاملةً، إلا أن الشرطة لا زالت تبحث عن شريك محتمل للقاتل في تنفيذ عمليته، كما شملت عمليات الاعتقال شخصان مقيمان في #سويسرا على صلة بالشاب الذي روّع المدينة والناس فيها، فضلاً عن اعتقال 14 شخصاً في #النمسا بعضهم لا يحمل الجنسية النمساوية كما أوضح وزير الداخلية.

الجريمة وضعت #فيينا على خارطة المدن التي يضربها الإرهاب، رغم أن #النمسا كانت دوماً من الدول التي لا تلعب دوراً بارزاً على المسرح السياسي، والتي جرت العادة أن يتعرض الإرهاب لها ولدورها مثل #باريس أو #لندن.

الأوربيون يشعرون بالتهديد يتنامى بين ظهرانيهم، وهذا ما يستغله اليمين المتطرف، إذ تعرضت الدول الأوروبية إلى ما لا يقل عن ثلاثة اعتداءات في غضون أسبوعين، ما عدا عمليات كانت قيد التحضير على ما يبدو من حملات الدهم والاعتقال.

في المقابل تجتاح أصوات الشعبوية الشرق الأوسط والمنطقة العربية، ويغزو التحريض الفضاء العام والافتراضي ليستغل سياسيون شعبويون مشاعر الناس، في محاولة لإخفاء أزماتهم الداخلية، هكذا يحلّ الصراخ الحاقد مكان التضامن الإنساني مع الضحايا وذويهم، ويغدو الدم تجارة بين يدي الإرهاب والشعبوية.

نيس/ جنوب فرنسا

صباح التاسع والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر، مدينة #نيس في الجنوب الفرنسي، والمعروفة بكثرة المتقاعدين الذين يلجؤون للسكن فيها نظراً لدفء طقسها المتوسطي نسبة إلى غيرها من مدن فرنسا.

في قاعة كاتدرائية نوتر دام اجتمع مؤمنون للصلاة، إلا أن الذئب المتربص قطع صلاتهم بسكين.

أثبتت التحقيقات أن الشاب التونسي إبراهيم العيساوي (21) عاماً، وصل إلى جزيرة لامبيدوزا الإيطالية أواخر شهر أيلول / سبتمبر قادماً من مدينته #صفاقس، ثم توجه إلى #فرنسا ووصل إلى مدينة #نيس في 27 تشرين الأول / أكتوبر، أي قبل يومين فقط من تنفيذه جريمته التي راح ضحيتها ثلاثة أشخاص، امرأة تبلغ الستين من العمر، وقندلفت الكنيسة الذي تجاوز الرابعة والخمسين بقليل، وامرأة برازيلية توفيت في مقهى لجأت إليه بعد تعرضها لعدة طعنات من سكين القاتل.

تردُّ مسيرة حياة الجاني ومسار رحلته على كثير من المحللين الذين ينسبون الإرهاب الذي يقع في أوروبا إلى مشاكل الضواحي والتمييز الذي يعانيه أبناء المهاجرين، بينما أتى إبراهيم العيساوي بفعلته ليردَّ هذا التحليل إلى مربعه الأول.

إذ أنَّ العيساوي ولد وعاش في مدينة #صفاقس التونسية وليس في ضواحي مدينة أوروبية، ومرّ بمرحلة من الإدمان والإكثار من شرب الكحول بحسب شهادات أفراد من عائلته، قبل أن يتحوّل منذ سنتين إلى التدين المتشدد، ومن ثم ركب البحر مدعياً أمام أفراد العائلة أنه يريد السفر كي يجد عملاً، إلا أن نيته كانت القتل، وهدفه الواضح على ما ظهر هو ممارسة هذا القتل في الغرب، ما يردُّ على الادعاء الدفاعي الذي يتشبث به بعضهم، حين يؤكدون أن الإرهابيين هم مجرد مواطنين مسلمين مهمشين في دولهم الأوروبية التي ولدوا وعاشوا فيها، وهذا الرأي وإن كان يحمل جانباً من الصواب في بعض الحالات، إلا أنه لم يعد من الممكن الركون إليه لاقتصاره على جانب واحد في المشكلة، وقد لا ينطبق على كل الأحداث دائماً، كما أنه لا يقف عند الدور الذي تلعبه أيديولوجيا التشدد عند هؤلاء الشباب وتأثيرها في خياراتهم.

خلف مشهد الدم وفي قلبه

يقبع في قلب مشهد الدماء والموت قاتل واع ومتأكد من فعلته، ومن الخطأ التبرير أنه مجرّد شاب مغسول الدماغ، وخلف مشاهد الموت الثلاثة المذكورة آنفاً هناك خطاب تحريضي وانتهازية سياسية شعبوية تمارسها قيادات سياسية أغلبها للأسف في دول عربية وإسلامية، يضاف إليها ضخّ إعلامي مقزز يمهد الطريق للجريمة قبل وقوعها، ويركض لتبريرها بعدما تحصل ! رغم أن دماء الأبرياء الذين خطفت أعمارهم لم تجفّ.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.