تتمحور السياسة الروسية في سوريا حول أنّها تعتبر نفسها متفرّدة بكون تدخّلها في سوريا “شرعيّاً”، وبالتالي يحقّ لها وحدها تقرير مستقبل سوريا، وفرض الحل الذي ترتأيه بالإبقاء على النظام السوري وسيطرته على كل البلاد وتحت وصايتها؛ وتعمل لأجل ذلك وفق سياسة فرض الوقائع والحلول كأمر واقع، سواء على واشنطن وشريكتيها في أستانة: أنقرة وطهران، أو على قوى الأمر الواقع السورية المسيطرة على مناطق النفوذ الثلاثة في سوريا، وعلى المجتمع الدولي عموماً.

فقد شهد الأسبوعان الأخيران نشاطاً روسياً محموماً في سوريا على الصعيدين العسكري والدبلوماسي، في محاولات جديدة منها لإيجاد مخارج لأزمتها في سوريا؛ حيث طرحت عقد مؤتمر دوليّ للاجئين في دمشق، وتحاول إعادة صياغة ملف الجنوب السوري بما ينهي فوضى الاغتيالات ويبعد سيطرة إيران، وتصعّد في إدلب مجدداً، بينما تعطي ضوءاً أخضر لتركيا لترسيخ نفوذها شرق الفرات وإضعاف الوحدات الكردية.

قد لا تجد مساعي روسيا طريقها للتحقق؛ فروسيا تراهن على إغراء المجتمع الدولي بحل مشكلة اللاجئين السوريين البالغ عددهم 10 مليون. عقدُ مؤتمر دولي للاجئين بعد أيام، وفي دمشق، يصطدم بعدم واقعيته، حيث يواجَه بالرفض التركي أولاً، وتركيا تضم أكبر عدد للّاجئين السوريين (4 مليون)، وهناك قرار أوروبي واضح بمقاطعته، بينما لن تُقبِل الأردن أو دول الخليج على المشاركة ضمن هذه الأجواء.

يعود طرح هذا المؤتمر إلى عام 2018 ضمن مبادرةٍ روسيّة تضم سلة (إعادة الإعمار، وعودة المهجّرين)، وقوبلت بالرفض من المجموعة المصغّرة للدول السبع من أجل سوريا (الولايات المتحدة، فرنسا، بريطانيا، ألمانيا، الأردن، السعودية ومصر)، حيث تم ربطه بشروط تتعلق بالحل السياسي وفق القرارات الدولية وبخروج المليشيات الإيرانية وإنهاء الإرهاب؛ هذا يعني أن هكذا مؤتمر لا يحظى بفرص انعقاده من أصله.

وغير بعيد عن مؤتمر اللاجئين الروسي في سوريا، قصة إعادة ترتيب ملف الجنوب؛ فروسيا طلبت من قائد فصائل المصالحة في درعا ورَجُلَها في الجنوب، “أحمد العودة”، إقناع اللاجئين بالعودة، ضمن المباحثات التي عقدت في الأردن بحضور “العودة” وضباط روس وبمشاركة أردنية.

بدورها، تهدف هذه المساعي إلى تقليص نفوذ الأجنحة العسكرية للنظام، والتي تتبع لإيران، وبالتحديد الفرقة الرابعة والمخابرات الجوية، وأن تسيطر كتائب “العودة” على معبر نصيب، الأمر الذي فيه إرضاء للأردن أيضاً، حيث اشتكت الأخيرة من التوغل الإيراني ومن تجارة المخدرات من سوريا عبر أراضيها باتجاه دول الخليج.

وبالأصل، يبدو أن الوضع في مناطق التسوية 2018، قابل للتفجر، فالنظام حاول مراراً اقتحامها، ولمنع ذلك اضطر الروس لإرسال ضباط لهم إلى حوران، فيما يحاول النظام تعزيز القوات المدعومة من إيران، كالفرقة الرابعة والمخابرات الجوية؛ ولمواجهة هذه التحديات، أعلن معارضون سوريون في حوران، ولادة ما أسموه “المجلس السوري للتغيير” باعتباره جسماً موحداً ممثلاً شرعياً عن الجنوب.

وفي إدلب، سقطت هدنة موسكو لوقف إطلاق النار في آذار الماضي، بعد ثمانية أشهر من الترنح، مع تصعيد النظام قصفه على أريحا مؤخراً، حيث تسعى روسيا لحسم ملف إدلب أمام الأتراك بالقوة النارية، لفرض واقع جديد أمام الهدنة القادمة المتوقعة، أي بالسيطرة على جبل الزاوية وجسر الشغور على الطريق الدولي M4، تمهيداً لفتحه أمام الحركة التجارية، الأمر البالغ الأهمية بالنسبة للروس إذا ما توصلت إلى تسوية تُقر بالبدء بإعادة الإعمار. تركيا ترسل تعزيزاتها إلى مناطق نفوذها في جبل الزاوية، وعينها على منبج وتل رفعت، أي لفرض مقايضة تخدمها، لكن الاحتمالات ما زالت مفتوحة أمام المزيد من التصعيد.

أما الملف الأصعب بالنسبة لروسيا؛ فهو شرق الفرات، حيث فشلت في إقناع الإدارة الذاتية بوعودها حول القبول بالحكم الذاتي اللامركزي، وفق الاتفاق الذي جرى بين مجلس سوريا الديمقراطية وحزب الإرادة الشعبية، وفشلت في جذب العشائر واستخدامها لضرب السلم الأهلي، خاصة أنها ما زالت تمنع دخول المساعدات عبر معبر اليعربية، ولم يتبق أمامها سوى التهديد بالانسحاب من تل تمر وعامودا القريبتين من رأس العين، حيث يتواجد الأتراك والفصائل الإسلامية المدعومة من أنقرة، وترك الوحدات الكردية لمواجهة مصيرها معهم. وكان الأهالي قد طردوا الدوريات الروسية حين اقتربت من شرق القامشلي والمناطق النفطية.

رغم امتلاك روسيا مطار عسكري في القامشلي، وقواعد عسكرية متعددة شرق الفرات، إلا أن دورها يقتصر على مهمة الشرطي للفصل بين الأتراك والأكراد، وهي مستسلمة أمام المحظورات الأميركية، أي الاقتراب من حقول النفط، لكنّها قد تستغل الانشغال الأميركي بترتيب بيته الداخلي وتسمح لتركيا بعملية عسكرية، تحديداً في شرق القامشلي، حيث حقول النفط غير المشمولة باتفاق الإدارة الذاتية مع شركة دلتا الأميركية، وذلك لتوتير الوضع أملاً في فرصة لنيلها.

تصرّ روسيا على إعادة تدوير النظام، رغم كل ما يعانيه من رفض دولي، وما زالت عاجزة، رغم محاولاتها، عن تحجيم إيران في سوريا، حيث يتزايد حضور الأخيرة في دير الزور ودرعا وحلب ودمشق، فإيران ما زالت تتبادل المصالح والخدمات مع الروس في سوريا، حيث تتمتع بنفوذ قوي ضمن دوائر القرار للنظام، مقابل قدرتها على تجنيد المقاتلين السوريين وغير السوريين للقتال في صف النظام، ولمصلحة الروس.

وليس من السهل على الروس حل المعضلة الإيرانية في سوريا، طالما أن كلّ جبهات القتال ما زالت مفتوحة أمام التصعيد، وبالتالي موسكو غير قادرة على تحقيق شروط الغرب للسماح بإطلاق عجلة إعادة الإعمار، ولا تستطيع دول عربية كالإمارات المضي بها منفردة، حيث ستواجه العقوبات الأميركية لقانون قيصر.

المساعي الروسية الأخيرة لا تتجاوز كونها تحريكٌ للمياه الراكدة، علّها تلتقط تغيراً ما لمصلحتها، في حين أنّ الاستنقاع السوري مستمرّ، وعلى الروس تقديم حلول أكثر جدية وواقعية، للخروج من المستنقع السوري، قبل أن يتفجّر مجدداً، إلى حيث لا سيطرة لموسكو عليه، وتحديداً في مناطق سيطرة النظام، نتيجة الأزمة المعيشية المتفاقمة.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.