يبدو أن تنظيم «داعش» يستميت كي لا يعترف بهزيمته التي مُنيَ بها في العراق وسوريا آذار/مارس 2019، وفي سبيل ذلك يَجْهَد لتنشيط خلاياه النائمة المتبقية، كي تقوم بعملياتها التي باتت في حدودها الدنيا نتيجة اعتقال الرؤوس المدبرة في التنظيم، وذلك بعد تسارُع عمليات القبض عليهم منذ قَتِل زعيمه أبو بكر البغدادي في غارة للتحالف الدولي على بلدة “باريشا” بريف إدلب الشمالي، على  الحدود التركية.

وكنتيجة واضحة لتقهقر التنظيم في سوريا والعراق، بِتْنا نشهد تزايداً كبيراً لنشاطه في غرب إفريقيا، خصوصاً في النيجر وبوركينا فاسو ومالي وسيراليون، وكذلك في الصومال شرقي إفريقيا، بالإضافة إلى ليبيا وتونس في شمالي القارة.

من الواضح أن تركيز “التنظيم” على نقل معركته إلى هذه المناطق، هو بسبب فقدانه التدريجي لأيّ أملٍ له في العودة لنشاطه السابق في كل من سوريا والعراق، وذلك بعد ما عانى منه سكان الدولتين من الويلات، وبعد أن شظّى مجتمعاتهما بشكل غير مسبوق.

الكيان الذي بسط سيطرته على ما يناهز 100 ألف كيلو متر مربع، وتحكَّمَ في مصائر ملايين السكان، بات يحاول بكل ما أوتيَ من تطرُّف، أن يَجِدَ موطئ قَدَمٍ له، في دول هَشّة، مسبوقاً بسمعة هي الأسوأ على الإطلاق في سجل التنظيمات الإرهابية، ودون أنْ يتَّكئ على إيديولوجيا قوية كما كان الحال عند تنظيم القاعدة، المنظّم بدرجة كبيرة، والذي استند على علماء دين استطاعوا تجنيد آلاف الشباب.

أسس البغدادي امبراطوريته المتخيلة حين انشقّ عن “القاعدة” بعد خلاف مع قائد جبهة النصرة آنذاك، وهيئة تحرير الشام حالياً، أبو محمد الجولاني حول تبعيّة الفرع السوري للتنظيم للفرع العراقي الذي كان يرأسه آنذاك البغدادي، إلى أن تدخّل زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري حَكَماً، وقرّر فصل كلا التنظيمين عن بعضهما، مع الحفاظ على تبعيتهما المباشرة للتنظيم الأم، ما حدا بالبغدادي حينها أن ينقلب على قادته، سعياً وراء مجده الخاص، لذا كانت شخصيته طاغية على التنظيم كَكُلّ، وبمقتله فَقَدَ التنظيم عصاه التي كان يتكئ عليها.

خمسة أعوام كانت كافية لتَعْلَم كلّ شعوب المنطقة أن “الدولة الإسلامية” ليست إسلامية، وبالتأكيد لن تصبح دولة، فحلم البغدادي الذي أعلنه في تموز/ يوليو 2014 أصبح أثَرَاً بعد عَيْن، هو، ومؤسِّسِه في تشرين الأول/ أكتوبر 2019 حين قتلت القوات الأميركية البغدادي وذلك بعد طرد التنظيم من آخر معاقله في بلدة الباغوز في ريف دير الزور آذار/ مارس 2019.

يُعْرَف عن القائد الجديد للتنظيم، أبو إبراهيم الهاشمي القرشي من شدّة تطرّفه، وهو الذي لَعِبَ دوراً بارزاً في عملية استعباد إيزيديات منطقة سنجار في كردستان العراق، وأعاد تشكيل دولته، حيث قسّم تَرِكة سَلَفِهِ إلى 14 ولاية، وإدارة واحدة للمناطق خارج سوريا والعراق.

على الرغم من نجاح “الدولة الإسلامية” الجزئي في كسب حاضنة شعبية ناقمة على تردي الأوضاع الاقتصادية في كل من العراق وسوريا، وللمظالم التي تعرضوا لها من حكومات البلدين، إلّا أن الأشهر والسنوات التي عاشوها في حكم التنظيم كانت كافية أن تُظْهِر لهم أن الالتجاء إلى كنف التنظيمات المتطرفة هو أسوأ ما قد فعلوه.

فالتخلص منها هي المهمة شبه المستحيلة، لولا التدخل الدولي المساند لطرده من بلادهم، وأن التلطّي وراء الفتاوى المتطرفة التي كان التنظيم يصدرها عبر شيوخه المتشددين، لم تَعُد تَجِد الأذن الصاغية عند أحد.

فكانت الفتاوى المضادة لهم ولممارساتهم؛ إحدى الوسائل الأكثر نجاعة لنفور السكان منهم، إضافة إلى ممارساتهم المتمثلة بالإعدامات الميدانية والذبح والحرق وغيرها من أساليب الترهيب غير المسبوقة.

على الرغم من اتخاذ تنظيم “الدولة” لأفريقيا مركزاً رئيسياً جديداً لعملياته، إلا أن التطورات السياسية في سوريا والعراق ستحدد بوصلة  خياراته، فالفوضى بيئة خصبة لعملهم، ومن الملاحظ أن القبضة الأمنية لقوات سوريا الديمقراطية في مناطق سيطرتها شرق الفرات، والجيش العراقي والقوى الأمنية في العراق، والتنسيق بين الجانبين يقضّ مضجع التنظيم، ويشلّ حركته بنسبة كبيرة، ويجعل من قادته صيداً شبه يومي في البلدين.

لكن الحرب التي شنتها تركيا والفصائل السورية الموالية لها في تشرين الأول/أكتوبر  2019 كانت متنفساً حقيقياً للتنظيم، حيث كانت فرصة لمحاولات التمرد داخل السجون، بل وهروب البعض منهم، حتى أفضت المساعي الدولية إلى إيقاف الحرب بزمن قصير نسبياً، ما أعاد الأمور إلى نصابها.

كذلك، فإن دعم التحالف الدولي في عمليات “قسد” ضد منتسبي “الدولة” وحالة الاستقرار السياسي النسبي الحاصل في مناطق الإدارة الذاتية هي ما تساعد “سوريا الديمقراطية” على ضبط الأمور فيها.

قد يؤسس التنظيم لنفسه موطئ قَدَم في المناطق التي تسيطر عليها الفصائل السورية الموالية لتركيا، وكانت الإشارة الأولى هي لجوء البغدادي إلى إدلب، حتى مقتله هناك، بالإضافة إلى أن العديد من هذه الفصائل تتبنى فكراً إسلامياً متطرفاً، وهو ما ينعكس في انتهاجها قطع الرؤوس، واتهام أعدائها بالإلحاد والرِدّة، وحصل أنْ رُفِعَت أعلام التنظيم في تلك المناطق بمناسبات عدة، كان آخرها المظاهرات التي خرجت تنديداً بالصور المسيئة للنبي محمد، وهو ما يزيد احتمالية عودة التنظيم للحياة، كون تلك المناطق باتت قريبة جغرافياً من أماكن احتجاز مقاتليه وعائلاتهم، وبات الهروب إليها أسهل من أي وقت مضى، حال تعرّض “قسد” لأي هجوم من قِبَل تركيا.

تبقى احتمالية ظهور التنظيم قائمة في المناطق الأكثر تأثراً به، والتي خضعت لحكمه سنوات طوال، مثل دير الزور والرقة، والمعتقلين الذين يُفرج عنهم بين الحين والآخر من سجون ومعتقلات “قسد” هم الأكثر عرضة ليكونوا جزءاً من نشاط “الدولة” القادم، والطريقة المثلى لقطع الطريق أمام هكذا فرضية، هي أن تُولى هذه المناطق اهتماماً خاصاً من جهة إعادة الإعمار، والاستثمارات، وتوفير فرص عمل، أي تحسين الوضع الاقتصادي والخدمي والأمني بشكل عام، مما سيسهم، بلا شك، في تغيير مسار الحاضنة الشعبية للتنظيم، والقضاء على الأفكار المتشددة التي زرعها في نفوس سكان تلك المناطق.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.